بدون مقدِّمات: إنّي أحذّر ممّا يجري في لبنان، وممّا قد يجري، لافتًا إلى خطورة التقاطعات السياسيّة، الداخليّة والإقليميّة والدوليّة، ومستخدمًا أشدّ عبارات التحذير من التحضيرات الغامضة والانزلاقات العينيّة غير المحمودة التي يلهث وراءها بعض الأطراف المحليين، ومحمِّلًا العارفين بالخفايا، وأولئك القابلين بأنْ يُستخدَموا مطايا، مغبّة ما يُحضَّر لبلادنا وحياتنا.
لم يغب يومًا مفهوم "الساحة" عن تقاليدنا. لقد ذقنا طعم ويلاته، وعشنا أهواله، وُجعِلنا أبطاله (الميامين!)، بعضُنا بملء إرادته، وبعضُنا الآخر رغمًا عنه. لكنّ هذا المفهوم راح يستعيد منذ فترةٍ، حجمَه المتمادي، في سياقٍ متأجّجٍ من المناخات اللاوطنيّة المتشنّجة، والتحدّيات الإقليميّة – الدوليّة.
لم يغب مفهوم "الساحة" يومًا، لكنّ "تباشيره" الفائقة تُرى بالغيوم السود التي تتجّمع، وبالأرض التي تهتزّ تحت الأقدام، وبالمتاريس اللغويّة والمادّيّة التي تُنصَب، حتّى لكأنّنا، لا على أبواب فتنٍ وحروبٍ داخليّة، بل في خضمّها المحموم. كلّ استخفافٍ بما تتسارع نُذُرُهُ ووقائعه، من شأن نتائجه الوخيمة، أنْ تقع على الناس البسطاء الأوادم، وما بقي من معنى الدولة.
يصطفّ رافضو "هدنة الطائف"، وحاملو شعارات استعادة الحقوق، ورافعوا رايات الاستكبار والاستعلاء والمصادرة والقتال والتصعيد، وأفرقاء آخرون، بخفّةٍ وتهوّرٍ مرعبَين، كلٌّ في جهة، حاملين العدّة ومجهِّزين العديد، كأنّنا في مسرحيّةٍ افتراضيّةٍ تخييليّة، لا فوق خشبة الواقع اللبنانيّة. تُستحضَر عشيّات الـ75، وعشيّات الـ2005 والاغتيالات التي رافقتها، وتزعق الأبواق في المناطق، يعزف نشيدَها المشؤوم موتورون مراهقون، جددٌ ومخضرمون، فيتوقّف من جرّاء ذلك مجلسُ الوزراء عن الانعقاد، فلا يرفّ جفنٌ لأحد. وتتهدّد حياة الناس في معاشاتهم ووظائفهم ولقمة عيشهم، فيزداد الموتورون ولعًا بالنيران المتأهّبة. ويتهامس – بصوتٍ عالٍ - أهلُ الاختصاص في الداخل والخارج في ما ينتظر الليرةَ اللبنانيّة من استحقاقاتٍ مصيريّةٍ مخيفة، فلا يتهيّب أحد. تُستذكَر جريمة سيّدة النجاة، وذكريات حرب الجبل، وكوع الكحّالة، وتلّة الـ888، والشحّار الغربيّ، وتُستحضَر لحظةُ مجزرة إهدن والثياب السود، كأنّ شيئًا لم يكن.
ذلك كلّه، من أجل حفنة السلطة، وحفنة المال. بل يُقال، وهذا هو الأدهى: من أجل اللعب بلبنان، أو تنفيذ التقسيم، أو الكونفيديرالية التي توازيه خبثًا ومكرًا، تحت نظر أصحاب القرار في السلطة. فمَن نحن، وماذا نحن، ولماذا نتلذّذ باستعادة (إعادة؟!) حروبنا الحمقاء المروّعة، كأنّنا لم نعلن حربًا، ولم نشارك في حربٍ، ولم نكن وقودًا في حربٍ، ولا دمًى ولا مطايا ولا أكباش محرقة؟!
إلى أين نُقاد ونُساق كالماعز والأغنام المطيعة، أو كالثيران الهائجة، في هذه الأيّام الكالحة التي يُشتهى فيها رغيف العقلُ مثلما يُشتهى رغيف الخبز؟
أنا الذي لا يملك سوى ما تستشعره موهبة الوجدان من حدوسٍ ونُذُر، أحذّر أصحاب الرؤوس الفارغة والحامية والخبيثة تحذيرًا تراجيديًّا ممّا يجري. لكني لا أكتفي بالتحذير، لأنّه يشبه غسل اليدين من الدماء المحتمَل أنْ تنزف:
أوقِفوا اللعب بلبنان واللبنانيين لأنّ "هدنة الطائف" على وشك الانفجار!
عقل العويط