بعد 34 عاماً على اغتيال المفتي الشهيد حسن خالد، تكاد الصورة من حيث مضمونها في الساحة السنيّة لا تتبدل ولا تتحول. فدار الفتوى في عائشة بكار كأنّ المفتي الشهيد لم يبارحها رغم دخول مفتيّين إليها بعد اغتياله، فسقف هذا الدار وضعه حسن خالد لا يمكن لأحد بلوغه كما لا يمكن لأحد أن يلغيه.
بالمقابل، بعد كل تلك السنوات يحفظ السُنّة صغيرهم وكبيرهم اسم حسن خالد، كما يحفظون اسماء الفرسان في تاريخهم كطارق بن زياد وصلاح الدين وما قبلهما حمزة بن عبد المطلب.
السُنّة منذ اغتيال المفتي الشهيد لم يبارحوا ساحة الملعب البلدي في بيروت، كأنهم يرتدون عباءاتهم البيضاء كما طلب منهم المفتي حسن خالد في صلاة العيد الجامعة عام 1983 ويفترشون ارض الملعب بانتظاره أن يصعد مجدداً إلى المنبر كي يستمعوا إلى كلماته التي لا تنسى.
تاريخ الافتاء
رحل الشيخ مصطفى نجا، مفتي بيروت المعيّن من طرف السلطنة العثمانية، في 30 كانون الثاني 1932، فانُتخب الشيخ محمد توفيق عمر خالد مفتياً لبيروت، في السادس من شباط 1932. وبعد مرور أشهر خمسة، صدر المرسوم اللبناني رقم 291 في 9 تموز 1932، معلناً أنّ مفتي بيروت أصبح من تاريخه فصاعداً، مفتي الجمهورية اللبنانية.
أمّا دار الفتوى التي باتت مرجعية السُّنّة والمسلمين عموماً في الجمهورية اللبنانية، فمرّت بمراحل متلاحقة ومتعرّجة. في مرحلة المدّ القومي الناصري والعروبيّ تميّزت في تاريخها بـ"خطاب معتدل وهادئ". اكتفت بمهامّها الأساسية: "إصدار الأحكام الشرعية الخاصة بالطائفة السنّيّة، وإدارة المدارس الدينية، والإشراف على المساجد". أتى ذلك في سياق إقرار دستور النظام اللبناني الذي قضى بتولّي المؤسّسات الدينية للجماعات الطائفية في لبنان، رعاية شؤونها وأحوالها الشخصية.
الشيخ حسن خالد: دور جديد لدار الفتوى
لكن في خضمّ الحروب الأهلية في لبنان (1975-1990)، وما شهدته البلاد من عواصف سياسية واحتقانات طائفية واحتراب أهليّ، بادر مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ الشهيد حسن خالد (1921-1989)، إلى القيام بأدوار ومبادرات سياسية جريئة وبارزة... أدّت إلى قتله اغتيالاً، عام 1989.
لم تكن دوافع المفتي خالد إلى خوض غمار السياسة إلا وطنية. كانت دوافعه المجتمع اللبناني الذي كان في حال تصدّع والدولة التي تنهار مؤسّساتها وتنقسم وتتفتّت، والزعامات السياسية السنّيّة التي يتراجع دورها بسبب هيمنة الميليشيات التابعة لسوريا في "الشارع الإسلامي" وفي المناطق الإسلامية، خصوصاً في العاصمة بيروت، حيث كانت أشدّ معارك الاقتتال الميليشياويّ. لذا تحوّل مفتي الجمهورية إلى مرجعية سنّيّة ووطنية ضرورية، فاعلة لا يمكن تجاوزها. وهذا ما أزعج على الدوام نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدّام، الذي كان يدير ملفّ الحروب الميليشياويّة ويرعاه، في ظلّ تغييب القرار السياسي الإسلامي اللبناني.
استطاع المفتي خالد، في غمرة الحرب، أن يبني جسور الحوار والتلاقي والمصالحات بين اللبنانيين، من خلال قمم عرمون التي كانت تُعقد في منزله في عامَيْ 1976 و1977. وهو مَن وضع مع الإمام محمد مهدي شمس الدين (1936-2001)، "وثيقة دار الفتوى للثوابت العشر"، في عام 1983. وقد نصّت الوثيقة على أنّ "لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه".
كان شعار المفتي خالد الدائم: "العودة إلى مرجعية الدولة القويّة والعادلة، دولة المواطنة الجامعة، وحكم القانون، والحريصة على الأرض والشعب، لمقاومة العدوّ الإسرائيلي الذي وصل إلى بيروت"، وذلك في صيف 1982.
هكذا تحوّلت دار الفتوى إلى مرجعية لكبار الشخصيات الإسلامية، وباتت تُعقد فيها اجتماعات تصدر عنها بيانات في كلّ أسبوع أو أسبوعين، وكان المشاركون من ممثّلي بيروت الدّاعين إلى إنهاء الحرب، وعودة سلطة الدولة وسيادة لبنان، وتحرير الأرض ووحدة أراضي الوطن.
كان المفتي خالد قد واجه أخطاء منظمة التحرير الفلسطينية وتجاوزاتها قبل الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وأخطاء الأحزاب والميليشيات اللبنانية. وغالباً ما كانت خطبه تنتقد قوى الأمر الواقع المتحكّمة، بل المتسلّطة تسلّطاً غاشماً وثقيلاً على الناس والبلاد. وربّما تكون مشاهد جموع المواطنين الذين اعتصموا أمام دار الفتوى في بيروت، في عامَيْ 1986 و1987، تأكيداً حيّاً على تمثيل مؤسّسة الإفتاء والمفتي للناس أو الأهالي المدنيين المغلوبين على أمرهم في مواجهة سطوة السلاح والمسلّحين في الشوارع.
في آخر حوار صحافي مع المفتي حسن خالد، قبيل اغتياله، كان قلقاً على مصير لبنان، لكنّه كان يعلّق آماله على القمّة العربية الوشيكة الانعقاد، إذ كان ينتظر منها أن تبحث سبل وقف الحرب، وإعادة الأمن والاستقرار والسلم إلى البلاد. غير أنّ السيّارة المفخّخة اللئيمة كانت له بالمرصاد في 16 أيّار 1989، فاغتالته في محلّة عائشة بكّار بالقرب من دار الفتوى.
القتل غيلةً
سرعان ما توجّهت أصابع الاتهام إلى المخابرات السورية، نظراً إلى العلاقة السيّئة بين المفتي خالد ونظام حافظ الأسد في سوريا، خصوصاً في السنوات القليلة الأخيرة التي سبقت اغتياله. لقد عاجلته تلك السيّارة القاتلة، فيما هو يستعدّ لزيارة السعودية، لتوكيد ما طلبه من العاهل المغربي: انعقاد قمّة عربية من أجل لبنان. وقد اغتيل قبل عشرة أيام من انعقاد القمّة في الدار البيضاء، التي دعا إليها ورأسها العاهل المغربي الحسن الثاني، الذي كان الأشدّ حزناً بين المؤتمرين على الشهيد الكبير حسن خالد. وقد قيل إنّ الملك المغربي صُعق عندما بلغه نبأ اغتيال المفتي.
لم يُغتَل المفتي خالد فجأةً، ومن خارج السياق. كان الرجل مستهدَفاً منذ ما قبل ذلك بكثير، وقد وصلته تهديدات ورسائل عدّة منذ تأسيسه في مطلع الثمانينيّات اللقاء الإسلامي الذي اغتيل معظم أركانه سياسياً غالباً ودموياً في حالات كثيرة. وقد تكون أبرز تلك الرسائل والتهديدات، وأفصحها وأشدّها إيلاماً، اغتيال الشيخ صبحي الصالح أقرب المقرّبين إليه، في 7 تشرين الأول 1986. على الرغم من ذلك لم يهادن صاحب العمامة البيضاء، وظلّ على قناعاته وسلوكيّاته حتى عمّدها بالدم.
محمد رشيد قبّاني... تغييب الدور وإلغاؤه
بتغييب المفتي حسن خالد ودوره المحوري، بدا أنّ النظام الأمني السوري كان مصمّماً على تقزيم الدور الفاعل والمستقلّ لدار الفتوى الإسلامية، بل على إلغائه، وذلك بعد تفريغه الحياة السياسية من رجالاتها المسلمين، وتقزيمه دور المؤسّسات الدستورية اللبنانية.
تجلّى ذلك في طريقة اختيار محمد رشيد قباني مفتياً وتعيينه. وفيما كانت البطريركية المارونية في بكركي وبطريركها نصر الله صفير محوراً أساسيّاً في الحياة السياسية للمسيحيين والموارنة تحديداً، في زمن الوصاية السورية، كانت دار الفتوى والمفتي قباني على هامش الهامش. وقد اقترن ذلك بتفريخ جماعات من هنا وأخرى من هناك تتبع سياسة النظام السوري والممانعة، ومنها بعض الجمعيات الموالية للاستخبارات السورية والمنشغلة في تعليق لافتاتها الصفراء لوناً ومضموناً في شوارع بيروت، ومنها أيضاً تجمّع العلماء المسلمين الموالي لسرايا مقاومة حزب الله. ثم جاء انتخاب المفتي عبد اللطيف دريان بعد تعديل قانون انتخاب المفتي، لتدخل دار الفتوى مرحلة جديدة مرحلة الانكفاء لصالح الزعامة السياسية والتي كانت ممثلة بالرئيس سعد الحريري الذي ما ان علّق عمله السياسي، حتى عاد المفتي إلى الواجهة بحث السُنّة على المشاركة تصويتاً وترشحاً في الانتخابات النيابية. فتعاملت دار الفتوى بتمهل وهدوء في هذه المرحلة الانتقالية.
القتل العاديّ للسُّنّة .. روحيّين وزمنيّين
استعادة ذكرى اغتيال وسيرة المُفتي خالد تُحاكي المسائل الاجتماعية والسياسية الأعرض في لبنان المُعقّد وحتى العصيّ على الفهم. في القتل المستمرّ والعاديّ الذي استهدف أهل السُّنّة، وبينهم 3 رؤساء وزراء، ونائبان هما ناظم القادري ووليد عيدو، وأمنيّان من وزن اللواء وسام الحسن والرائد وسام عيد، صار يجب التفكير في ضرورة رسم صورة أدقّ عن الفاعلين المعنيّين بالأمر، وعن طبيعة المنازعة الدائرة على الدم.
الزعم المسيحي السياسي بأنّ لبنان لهم دحضه البطريرك صفير بقوله إنّ الموارنة خُلقوا للبنان ولم يُخلق لبنان لهم. ومزاعم الشيعية السياسية عن قدرتها الجيوبوليتيكية في رسم حدود البلد، وبالتالي التحكّم في وجهته، صارت تستلزم من هذا الفريق مراجعةً، ما دام الدم المسفوح من أهل السُّنُة ما زال ينتظر مفتيه الشهيد أن يُبعث مجدداً على طريقة طائر الفينيق على منبر الملعب البلدي في الطريق الجديدة.
*عن صفحة أساس-ميديا