كم يتمنّى اللبنانيون أن تكون كلمة "تشاؤل"، التي تعبّر عن حالة وسطى بين التفاؤل والتشاؤم، ما تزال تنطبق على واقهم في ظلّ تراكم الأزمات المالية والسياسيّة والصحية؛ وذلك في وقت لم تظهر بعد بوادر حقيقية لخروج لبنان من النفق المظلم الذي دخله، خصوصاً في ظلّ انقسام الدولة على نفسها على ما ظهر في الجولة الأولى من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
لقد طال انتظار اللبنانيين والمجموعة الدولية الداعمة للبنان للخطّة الإصلاحية الحكومية كإجراء أوّلي وضروري لبداية البحث عن حلول للأزمة الاقتصادية الخطيرة التي تتخبّط فيها بلاد الأرز. وإذا بالخطة تولد وقد رفضها مصرف لبنان والقطاع المصرفي فضلاً عن نقابات المهن الحرّة، بينما لا يمكن تصوّر حلّ للأزمة لا توافق عليه هذه الجهات التي اتهمّ بعضها الحكومة بالكذب إذ هي ادّعت أنّها أشركتها في اعداد الخطة، لكن تبيّن العكس. ولعلّ الردّ الأقسى كان من جمعية المصارف التي لم تكتف برفض الخطة وإنما طالبت بمحاسبة واضعيها.
ثمّ أنّ هذه الخطة لم تعرض على البرلمان بل تمّ الاكتفاء بمناقشتها بين رئيسي الجمهورية والحكومة و"زعماء" الكتل النيابية، وبعضهم ليس عضواً في البرلمان، فضلاً عن أنّ عدداً منهم قاطع الاجتماع. وبالتالي فإنّ هذه الخطّة لم تسلك الطرق الديموقراطية التي يفرضها النظام السياسي ولم تحظَ بالغطاء السياسي والدستوري الكافي لتعبّر حقيقة عن "تطلّعات الشعب اللبناني"، وهي العبارة التي استخدمتها مجلس الأمن في بيانه الأخير عن لبنان.
إذّاك يصبح التساؤل عن فرص نجاح المفاوضات مع صندوق النقد مبرّرا، لا سيّما في ظلّ الخلاف الواضح لا بل الخصومة بين أعضاء الفريق اللبناني المفاوض. إذ من جهة هناك الممثلون لرئيسي الجمهورية والحكومة ووزارة المال، وهؤلاء متباينون أصلاً، ومن جهة ثانية هناك ممثلو المصرف المركزي الذي يشكّك في أرقام الخطة حول خسائر الخزينة العامة ومصرف لبنان والمصارف التجارية. علماً أنّ الحكومة لم تلجأ إلى الصندوق إلّا في الربع الساعة الأخير أي بعد أن بلغ الانهيار المالي والإقتصادي حدّا ما عاد ممكناً معه سوى اللجوء إلى الصندوق إيّاه؛ وهو الخيار الذي كان "حزب الله" قد حرّمه على الحكومة قبل أن يتراجع ويسمح لها بالتفاوض مع "النقد الدولي" لكن "ضمن ضوابط"، وهو تعبير فضفاض وغامض يمكن أن يستخدمه الحزب وفق المقتضى السياسي الخاص به. ما يعني عمليّا أن عملية التفاوض تلك محكومة بالظروف السياسية لا المحلية وحسب ولكن الإقليمية والدولية أيضا.
والحال هذه فإنّ المفاوضات مع الصندوق الدولي، الذي يُعتبر في أدبيات "حزب الله" خاضعاً لتأثير النفوذ الأميركي، تجري على وقع المواجهة المفتوحة بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الاسلامية الايرانية والتي يمثّل "حزب الله" أهمّ أذرعها في المنطقة. وليس قليل الدلالة في هذا السياق كلام مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شنكر عن "ممارسة صندوق النقد للرقابة على اقتصاد الدولة"، وتشكيكه بقدرة الحكومة على الالتزام كلياً بالإصلاح، خصوصاً "أن الحزب يعتمد على التمويل غير القانوني والفساد"، فضلاً عن تشديده على "إغلاق المعابر غير شرعية لوقف سيطرة حزب الله عليها". وهذه نقاط تجعل الحزب، بلا أدنى شك، شديد اليقظة على مجريات المفاوضات مع صندوق النقد لضمان – إذا كان ذلك ممكناً أصلاً - عدم الاتفاق في إطارها على ما يعتبره الحزب تضييقاً على حركته في الداخل اللبناني وعلى الحدود بين لبنان وسوريا، بكل ما لهذه الحركة من معاني سياسية وأمنية في استراتيجية ايران التوسعية في المنطقة. وهذا ما يفسّر استعجال الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله لمقابلة الضغوط الدولية على الحكومة للتحكّم بهذه المعابر بتجديد الدعوة للتنسيق مع سوريا بشأنها، محاولاً بذلك نفي الوظيفة السياسية والأمنية لهذه المعابر والقول إنّها مرتعاً لمهربّي البضائع من السوريين واللبنانيين. ولم يكد نصرالله ينهي كلامه هذا حتّى انهمكت الدولة بوقف التهريب الحدودي!
كذلك يبرز سؤال عن ماهية الخطّة التي تعدّها المصارف لمواجهة الضغوط عليها لاسيّما لجهة تضمين الخطة الحكومية بنداً حول إعادة هيكلتها، وهو ما كرّره وزير المال أخيراً بقوله إن الحكومة تنوي خفض عدد البنوك. واعادة الهيكلة هذه تنطوي على غموض إجرائي، إذ أن الحكومة نفسها أوردت في خطتها أنّ أمراً كهذا يتطلب "سلطات قانونية جديدة للحكومة"، كما تنطوي، على مخالفة للدستور الذي ينصّ في مقدمته على أنّ "النظام الاقتصادي حر یكفل المبادرة الفردیة والملكیة الخاصة". وبالتالي فإنّ الضغوط على المصارف تأخذ معنى سياسياً أيضاً لكونها - وأيّا يكن الموقف من سياساتها التشغيلية – العمود الفقري للنظام الاقتصادي الحر، وأي تغيير في طبيعة النظام الإقتصادي سيترتّب عليه حكماً تبعات سياسيّة لجهة الأداء الديموقراطي للنظام السياسي والسياسية الخارجية. وهو ما يطرح سؤالين أساسيين: هل المصارف تأخذ البعد السياسي للضعوط عليها في الاعتبار؟ وهل لا تزال القوى السياسيّة الكبرى التي تعلن تمسّكها بالنظام الإقتصادي الحر مستعدة للدفاع عنه؟
إيلي القصيفي