حتى ولو تشكّلت حكومة حسان دياب غداً فإنّ ذلك لا يعني أن الوضع اللبناني الصعب سينقلب إلى الأحسن. فالأمر هنا لا يتعلّق بتشكيل حكومة جديدة فحسب، وإنما بشكل هذه الحكومة والأهم بكيفية تأليفها، أي بالأرضية السياسية التي تنبثق عنها هذه الحكومة؛ هل هي أرضية صلبة قائمة على أساس المشهد الجديد بعد 17 تشرين 2019، أم هي أرضية هشّة قائمة على محاولة قوى السلطة الفعلية تجاوز المتغيرات الجديدة؟
في الواقع فإنّ الأزمة اللبنانية الحالية مركبة، بمعنى أنه لا يمكن ردّها إلى سبب اقتصادي أو إداري فحسب، كالفساد مثلاً. فحبذا لو كانت مكافحة الفساد قادرة على معالجة الأزمة أو أن تكون حكومة من التكنوقراط أو الاختصاصيين سبيلاً للخروج منها. إلّا أن واقع الأمر مختلف تماماً، فالموضوع السياسي حاضرٌ بقوة في تحديد مسار الأزمة وطبيعتها، وذلك لسببين: أولّا لأنّ الاستقرار السياسي هو شرط شارط لأي اصلاح سياسي واقتصادي في البلد. وبالتالي لا يمكن توقّع نجاح أي مبادرات إصلاحية من جانب قوى السلطة الفعلية، في ظل جوّ سياسي انقسامي إلى هذا الحد وفي غياب حاضنة اجتماعية حقيقية ومتنوعة لهذه السلطة واصلاحاتها الموعودة. وثانياً لأنّ لبنان جزء من مجال سياسي وأمني إقليمي ودولي، وهذا أمرٌ حاسم في مسارات الأزمة اللبنانية الحالية، تفاقماً أو انفراجاً، لاسيّما أن خيار تدويل الأزمة خيار مطروح بقوة والأرجح أنه خيار حتمي، وبالتالي فإنّ عامل من عوامل نجاح أي حكومة مستقبلية هو قدرتها على التعامل مع وقائع التدويل هذا، خصوصاً أنّ المواقف المعلنة للقوى السياسية تشير إلى انقسام حول هذا الأمر.
لقد دخل لبنان بعد تسوية العام 2016 مرحلة سياسية جديدة العامل الأساسي فيها حسم مسألة التموضع السياسي للبنان في الصراع الاقليمي والدولي في المنطقة، بعد أن كان الانقسام السياسي الممتد وإن بأشكال عدّة منذ العام 2005 حائلاً دون حسم هذه المسألة. فرئيس الجمهورية حليف "حزب الله" من نحو 14 سنة. كذلك فإن الحكومة المستقيلة، والتي اعتبرها الرئيس عون حكومة العهد الأولى، كانت قائمة على نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة التي أنتجت غالبية نيابية لتحالف "8 آذار" – عون.
إلّا أنّ المعادلة السياسية الجديدة، وبالرغم من تجانسها إلى حد بعيد وقد روّج لها أركانها بوصفها ضامنة لاستقرار البلد، لم تحل دون وصول البلد إلى مواجهة الانهيار المالي والاقتصادي. وإذا كان السبب العميق للأزمة عائد إلى اختلال النموذج الاقتصادي القائم في الأساس على معطيات جيوسياسية في المنطقة انقلبت رأساً على عقب، إلّا أن ذلك لا يمكن أن ينزع المسؤولية عن السلطة الحالية في الأزمة الراهنة. وهذا ما فعلته الانتفاضة، إذ حمّلت، ومنذ لحظة انطلاقها، هذه السلطة المسؤولية عن الأزمة. إذ كان نزول الناس إلى الشارع ومواجهة الرمزية السلطة بتراتبيتها الدستورية كلّها بمثابة استفتاء على أهلية هذه السلطة وشرعيتها التمثيلية لشرائح الشعب اللبناني المختلفة بعد نحو عام ونصف على الانتخابات البرلمانية.
هذا أمر لا يمكن إسقاطه من الحسبان عند قراءة الوضع السياسي الجديد الذي قد ينشأ مع تشكيل الحكومة. بمعنى أنّ هذه السلطة التي نزل مئات آلاف المواطنين للتنديد بها وشتمها في الشارع، هي اليوم تعيد رسم الواقع السياسي متجاوزة لحظة الانتفاضة الأولى بوصفها لحظة تشكيك بأهلية هذه السلطة وشرعيتها. إلّا أنّ السلطة الحاكمة تستفيد في الوقت نفسه من استعصاء الخروج من الأزمة خارج الأطر الدستورية التي تتحكم هي بمفاتيحها سياسياً، ما دامت الترجمة السياسية للانتفاضة لم تتجاوز دينامية الضغط على السلطة إلى دينامية إسقاطها كلياً.
من جهة ثانية فإنّ المعادلة السياسية التي انتجتها تسوية 2016، والتي فشل أركانها في تثبيت استقرار سياسي يخلق مناخاً مؤاتياً لمعالجة الأزمة الاقتصادية، قد اختلت اختلالاً اضافياً بعد تكليف حسان دياب تشكيل الحكومة. إذ أنّ المبدأ السياسي الذي قامت عليه هذه التسوية والقائل بأنّ الأقوى في طائفته يمثلّها في النظام، تلّقى ضربة قاضية مع خروج الحريري من المعادلة الرئاسية "الميثاقية" وبقاء الرئيسين عون ونبيه بري في منصبهما.
إذ ذاك فإنّ التركيبة الحكومية الجديدة في حال أبصرت النور تتأسّس على اختلالين اثنين؛ الأول اختلال الشرعية الشعبية لقوى السلطة التي تمكنها من انتاج حلّ متين للأزمة السياسية والمالية، والثاني اختلال اللعبة السياسية/ الطائفية داخل النظام نفسه بعد سقوط الأساس السياسي لتسوية 2016. وهذان اختلالان مهمّان لا يمكن للحكومة الجديدة تجاوزهما بسهولة خصوصاً أنهما حاسمان في قدرتها على تأمين غطاء عربي ودولي لخطتّها للخروج من الأزمة. وإنّ غداً لناظره قريب.