لبنان الذي نشأ، في خضم تسويات دولية أعقبت الحرب العالمية الثانية، وطناً مستقلاً سيّداً، جوبه بمشروع إسرائيلي طائفي (يهودي) بالتعريف، لأن المشروع الصهيوني منذ ولادته حمل هذا الالتباس، من جهة أولى، ومن جهة أخيرة حمل المشروع الإسرائيلي منذ ولادته بذور ادّعاء التفوق الحضاري، والاتصال بالحداثة والمعاصرة من بابها الواسع، الأمر الذي جعل منه مشروعاً استعمارياً بامتياز.
واجه لبنان الحديث النشوء، هذين المعطيين، دفعةً واحدةً، ويمكن القول إن ديموقراطية لبنان (الملتبسة هي أيضاً)، صمدت في مواجهة هذا المشروع واستمرت تغذّي الطموح اللبناني إلى استقلال تام وناجز وأداء دور مميز في المنطقة. لكن قوى لبنان السياسية، بالرغم من أفضالها النظرية والاجتماعية والسياسية على حد سواء، لطالما استسهلت ورود موارد العنف الأهلي وسيلةً للتغيير.
كانت القوى السياسية تتغذى غالباً على الحروب، الأداة الأسهل والأسرع، ويشتد عودها بها، وتحشد جمهورها بوصفه جمهوراً مقاتلاً يسهل جره إلى الحروب. لكن الحروب اللبنانية أثبتت أنها الوسيلة الأبطأ للتغيير، والأقصى، والتي لا تخلّف وراءها غير الخاسرين.
مع "السُنيّة السياسية"، بـ"مشروعها المديني"، بعد الحرب الأهلية، شهد البلد تحولاً جذرياً في طبيعة الأشخاص والفئات المهمة العاملة في الشأن العام. ومن مميزات هذا المشروع أيضاً، أنه المشروع الوحيد في البلد الذي حسم في أهمية المُدن ودورها الراجح في تشكيل الهويات الوطنية. فالهويات الحديثة لا تُبنى على الأرياف، كما لا تُبنى على الأطراف، وإنما مدن اليوم هي التي تشكل البؤر المقررة اتجاهات الهويات الوطنية وأدوارها وطموحاتها.
مشروع الرئيس الشهيد رفيق الحريري من مواليد المدن اللبنانية، وهو مشروع مديني بامتياز، بصرف النظر عن الإخفاقات والنجاحات التي حققها، وبصرف النظر عن المصاعب والتسهيلات التي واجهها في مسيرته. ذلك أنّ تركيب لبنان البنيوي مصاب بعطب ديموغرافي، إذ يغلُب على مدن لبنان سكان من طوائف محددة، وهذا من أسباب الإعاقة التي تواجه أي مشروع تحديثي منذ نشوء لبنان وحتى اليوم.
لكن هذه الإعاقة البنيوية لم تقف حائلاً دون الاستمرار في المشروع المديني، ومحاولة إعادة استنهاض البلد، استناداً إلى نهضة مدنه وأدوارها الراجحة. لقد ووجه هذا المشروع بكثير من الاعتراض، وهذا مفهوم وطبيعي. وقد قُيّض لبعض هذه الاعتراضات أنّ تؤدي دوراً حاسماً في الاتجاهات السياسية الراهنة في البلد. لكن وجاهة هذه الاعتراضات وحظها من الدقة والإصابة لم يخفيا يوماً أن المشروع الذي حمله الحريري الأب كان مشروعاً قابلاً للتطور مع الزمن، وقادراً على عقد صلة وثيقة مع مستقبل البلد. فالنمو والتطور الحديثان يستندان إلى نمو المدن الكبرى، وتطورها وازدهارها، في أي بلد من بلدان العالم. بل يمكن القول، من دون كثير تردد، إن بريطانيا العظمى اليوم هي لندن، بعد أن غابت أو اضمحلت أدوار المدن الأخرى، من بورك إلى مانشستر فليفريول.
كذلك يمكن القول إنّ هوية فرنسا اليوم معقودة اللواء لباريس، بعدما تراجعت أدوار مرسيليا وليون. وقد تكون الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الوحيدة التي تضم تحت سيادتها الفيدرالية أكثر من مدينة كبرى. مع ذلك تجدر بنا ملاحظة أن ثمة مدناً قليلةً صنعت مجد أميركا، وتحلقت حولها الولايات والمدن الصغيرة المنتشرة فيها.
لا يفترض هذا التركز المديني الذي طبع مشروع الحريري الأب، إهمال المناطق الريفية أو المدن والبلدات الصغيرة المنتشرة في أرجاء لبنان. لكن الحاسم في هذا الإطار، أن هذا المشروع استشرف، عن وعي أو استناداً إلى غريزة سياسية صائبة، أن بيروت، أولاً، هي قاطرة الاقتصاد والاجتماع والسياسة في لبنان. بل إن بيروت في عهد الوصاية السورية على البلد، وحتى الأمس القريب جداً، كانت القاطرة التي تجرّ الاقتصاد السوري أيضاً على معنى من المعاني. والحال، فإن التركيز على بيروت لم يكن تركيزاً قوياً أو حاسر النظر، بل كان تركيزاً مصيباً على أي محمل حملناه.
من سوء الحظ الآن، أن حملة المشروع المديني ورموزه، على اعتكافهم وانكفائهم. ولا يوجد أي مشروع يحمل صفة "المستقبل" الذي يفترض أن يحمل لبنان إلى المعاصرة. والسؤال عن "المستقبل" ليس سؤالاً شعرياً، وليس مجرد تمنيات لا أساس واقعياً لها. فالحديث عن "المستقبل" يفترض أن المشروع الذي حملته قوة سياسية تجانب العنف، هي "السُنيّة السياسية"، ورفضت اللجوء إليه، هو حديث بالغ الدقة، ذلك أن مشاريع القوى السياسية الأخرى المؤثرة في الوضع اللبناني اليوم، هي إما مشاريع العودة إلى الماضي، وإما مشاريع انتهى زمنها، وأدت قسطها.
*نُشر على صفحة أساس-ميديا
الجزء الرابع: سؤال "المقاومات" عن أدوارها في الاقتصاد