في بيانها الصادر بعد نحو ستّ ساعات على جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، طالبت المعارضة المجتمع الدولي بـ "تحمل مسؤولياته تجاه لبنان الوطن الأسير"، ودعت إلى "تشكيل لجنة تحقيق دولية تضع اليد على هذه الجريمة في ظل انعدام ثقة اللبنانيين بهذه السلطة وأجهزتها كافة".
لقد أدركت المعارضة لحظة وقوع الجريمة أنّ لبنان الوطن الأسير يحتاج إلى مساعدة العالم لفكّ أسره، وأنّ الخطوة الأولى باتجاه هذا الهدف هو إقامة لجنة تحقيق دولية تكشف حقيقة الجريمة الكبيرة.
البيان الذي يعدّ مأثرة سياسية لجهة جمعه بين مقتضيات اللحظة السياسية وموجبات التعامل مع هول الجريمة، كان قد اعتبر في مطلعه أنّ جريمة 14 شباط بلغت مستوى لم يرق إليه أي اعتداء آخر منذ انتهاء الحرب في لبنان. أي أنّها نظرت إلى الجريمة بوصفها تأسيساً، من قبل النظام القائم، لمرحلة جديدة سيكون العنف السياسي سمتها الأساسية بهدف مجابهة الضغط الدولي الذي كان قد بدأ يمارس ضدّ سلطة الوصاية السورية في لبنان.
والحال فإنّ المعارضة قد تنبّهت لضرورة التحقيق الدولي في الجريمة لأنّه يشكّل حائط الصدّ الوحيد أمام إعادة البلاد إلى الحرب الأهلية، وقد أشار بيانها إلى أنّ "الممارسات الإرهابية لهذا النظام ومَن يقف وراءه لن تثنيها عن حماية الوحدة الوطنية ومقومات العيش المشترك".
إذاً فالتحقيق الدولي ما كان تدويلاً غير لازم للأزمة الناشئة عن جريمة اغتيال الحريري، وإنمّا كان ضرورة لمنع تحوّل هذه الأزمة إلى حرب أهلية، في منطقة بشّرتها فظائع حرب العراق بأخذ الفتنة السنيّة الشيعية مسالك ما عرفها تاريخ العرب والإسلام من قبل. خصوصاً أنّ لبنان كان واقعاً وقت الجريمة تحت احتلال النظام البعثي الذي جعل لبنان أسير سياساته الإقليمية تماماً كما جعله حزب الله اليوم أسير سياساته الإقليمية من ضمن محور الممانعة. وبالتالي فإن إمكانية الوثوق بالأجهزة الأمنية والقضائية وقتذاك كان مستحيلاً.
بعد نحو أسبوعين يحين موعد إصدار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حكمها في جريمة اغتيال الحريري، وهو ما يطرح مسألتين: الأولى متّصلة بالمعاني السياسية والوطنية للحقيقة في جريمة الاغتيال والثانية في كيفية التعامل السياسي الداخلي مع هذه الحقيقة.
فمن الناحية الأولى لا يمكن اعتبار حكم المحكمة إلّا انتصاراً سياسياً وقيمياً كبيراً لا لعائلة أو فريق بل للبنان بأسره وحتّى للمنطقة. فأن تكشف الحقيقة في جريمة سياسية من هذا النوع في منطقة شكّلت الجريمة فيها على مدى عقود إحدى أدوات السياسة فهذا إنجاز غير مسبوق.
ربّ قائل إنّ اعلان الحقيقة وحده لا يكفي طالما لم يستتبع بتوقيف المرتكبين، وهذا صحيح لناحية، إنمّا من ناحية أخرى فإنّ كشف الحقيقة في جريمة سياسية بهذا الحجم يفتتح مساراً جديداً للعدالة السياسية في المنطقة بحيث لا يمكن أن يكون ما بعد النطق بالحكم كما قبله لجهة ثقة المجرمين بإمكان إفلاتهم من العقاب. وهذا بحدّ ذاته فرصة ثمينة لشعوب المنطقة بأسرها الذين كانت الجريمة السياسة لسنين عديدة إحدى أخطر وسائل الأنظمة لقمعهم وإخضاعهم.
ثمّ من جهة ثانية فإنّه لا يتوقّع أنّ يبادر "حزب الله" الذي سبق للمحكمة أن اتهمت عناصر فيه بارتكاب جريمة "14 شباط" إلى تلاوة فعل الندامة نيابة عنهم، وهو الذي قال منذ قيام المحكمة أنّها باطلة ولذلك فهو لن يعترف بحكمها. لكنّ في المقابل فإنّ الحزب عينه لا يستطيع أن يلزم اللبنانيين الآخرين برأيه عن المحكمة وأن يقنعهم بأنّها غير ذي صدقية خصوصاً أنّه لم ينجح في إثبات عدم صدقيتها بالرغم من كلّ محاولاته. بالتالي فإنّ الحزب إذا كان فعلاً يريد الوحدة الوطنية كما يقول فهو ملزم التعاطي مع حكم المحكمة وفق مقتضيات هذه الوحدة وذلك من خلال عودته إلى إلزامات العقد الإجتماعي أي الدستور والقوانين المرعية، وإلّا فهو يمعن في المكابرة وتجاهل المخاطر الكبيرة التي ترتبها سياساته على مستقبل الكيان اللبناني.
ثمّ من جانب آخر فإنّ "أولياء الدم" لا يمكنهم اعتبار الحقيقة في جريمة "14 شباط" تخصّهم وحدهم، أولا لأن هذه الحقيقة كلفّت دماء وتضحيات لبنانية كبيرة إذ سقط سياسيون واعلاميون ومواطنون في طريق إقرارها. ثمّ لأنّ العدالة في هذه الجريمة باتت مسألة وطنية لا شأناً عائلياً أو مذهبياً وإلا لما كانت قامت المحكمة الدولية أصلاً والتي شكّل قيامها محطة مفصلية في تاريخ المنطقة لجهة الوقوف بوجه الجريمة السياسية.