الملف النووي، او "خطة العمل الشاملة المشتركة" بحسب التسمية الرسمية التي اطلقت على الاتفاق، يختصر اليوم واقع حال السياسة الدولية التي تجسدها المواجهة بين الولايات المتحدة وايران على الصعيدين الاقليمي والدولي. واشنطن تريد منع طهران من امتلاك السلاح النووي وتحجيم نفوذها وتمددها الاقليمي، وسلطة الملالي تلعب ورقة السلاح النووي كغطاء ل"تصدير ثورتها" وتعزيز دورها الشرق أوسطي. وهذا الكباش قائم ومستمر منذ ما بعد قيام "الثورة الخمينية" في بداية الثمانينيات، وقد كلف ايران نحو عقدين من العقوبات الاقتصادية... الى ان توصل الطرفان، اميركا واوروبا من جهة وايران من جهة أخرى، في 15 تموز 2015 الى اتفاق مركب وتنفيذه معقد، كان من المفترض من حيث المبدأ ان يضع حدا لطموحات ايران النووية.
ينص اتفاق لوزان (سويسرا) بعد مفاوضات ماراتونية استمرت 18 شهرا في كل من جنيف وفيينا ونيويورك ولوزان نفسها على رفع العقوبات الأميركية والأوروبية بمجرد تحقق "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" من أن إيران تقوم بالالتزام بتطبيق بنود الاتفاق الذي وقعت عليه. ويعتبر الاتفاق-الاطار اختراقا مهما في أزمة استمرت 12 عاما، كما ينص بالمقابل على إمكانية إعادة العمل بالعقوبات في حال عدم تطبيقه.
أهم بنود الاتفاق
أسباب انسحاب ترامب من الاتفاق
هذا الاتفاق وقعته الدول "الخمس + 1" الشركاء في عملية التفاوض (وفي فرض العقوبات) اي الولايات المتحدة وفرنسا وانكلترا وروسيا والصين + المانيا. يومها كان رئيس الولايات المتحدة باراك اوباما الذي اعطى الأولوية للتوصل الى اتفاق حول السلاح النووي مع ايران على حساب دعم انتقاضة الشعب السوري من اجل اسقاط نظام بشار الأسد، وسلم مصير سوريا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وبدأت على اثرها طهران تستفيد من الرفع التدريجي للعقوبات. وبعد سنة ونصف السنة رحل الديموقراطي اوباما عن البيت الأبيض وحل مكانه الجمهوري دونالد ترامب الذي كان قد اعلن خلال حملته الرئاسية ان الاتفاق النووي "سيء للغاية" وأن المفاوضين الأمريكيين لم يكونوا على مستوى المسؤولية في الدفاع عن مصالح الولايات المتحدة. ولخص رفضه بمجموعة أسباب أولها تجاري كما اوضح، وثانيها بتمكين ايران من دعم الارهاب، وثالثها عدم توفيره ضمانات للمستقبل، واخيرا، وهو الأهم بالنسبة للعرب، ترك لايران حرية التمدد وبسط هيمنتها في المنطقة.
وبذلك يكون ترامب قد ربط عمليا الضغط على طهران بخصوص الاتفاق النووي بانسحابها من سوريا. علما انه كان قد اعلن فور تسلمه السلطة في بداية 2017 انه غير معني، ولا يهمه، اسقاط الأسد. ولذلك، فقد أعلن في 8 أيار 2018 انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، واعاد فرض عقوبات اقتصادية وتجارية وبتروكيماوية قاسية على ايران ومنعها من تصدير النفط، الذي يشكل 80 بالمئة من مصدر دخلها القومي، والذي تدنى استخراجه من 3 ملايين برميل في اليوم الى 500 الف برميل فقط!
ومع توسع العقوبات وتصاعدها واشتداد الحصار حاولت ايران اللعب على التباينات الناجمة عن رفض الدول الاوروبية اللحاق بقرار ترامب الخروج من الاتفاق، الا ان المصالح الاقتصادية والتجارية التي تربط اوروبا بالولايات المتحدة، والتي تفوق بكثير مصالحها مع نظام الملالي، حالت دون ذلك. كما ان اسلوب التحدي والاستفزاز والتعديات التي مارستها طهران ضد دول الخليج بضربها ناقلات نفط اماراتية وانابيب نفط سعودية، ثم ضد واشنطن نفسها باسقاطها طائرة استطلاع اميركية مسيرة محاولة جر ترامب الى الحرب بائت الى الآن بالفشل. لا بل دفعت بالدول الاوروبية الى اعادة النظر بموقفها، وبالأخص بعد ان قررت طهران تجاوز حد تخصيب اليورانيوم المسموح به في الاتفاق بنسبة 3،67 بالمئة. وأول الغيث كان قيام بريطانيا باحتجاز ناقلة نفط ايرانية حاولت اختراق العقوبات متوجهة الى سوريا التي تخضع هي ايضا للعقوبات الاوروبية والاميركية. وهذه الخطوة قد عززت موقف واشنطن، وقلبت مفعول اسقاط الطائرة الاميركية المسيرة، ووضعت طهران أمام مأزق يراوح بين الرد وبالتالي استعداء الدول الخمس الموقعة على الاتفاق أو غض النظر ما سيظهر عجزها عن الحركة وحصد ولو قليلا من التعاطف.
كما ان اللافت في الأمر ان دائرة الحصار بدأت تضيق وتطبق عليها من كل الجهات عبر تلازم ضغط العقوبات مع الضغط عليها شرقا لسحب قواتها وميليشاتها من سوريا، بعد ان احكمت الادارة الاميركية امساكها بمعبر التنف السوري على مثلث الحدود العراقية-السورية-الاردنية، والذي كانت ايران تريد تحويله الى ممر عبور استراتيجي لها نحو ضفة المتوسط، أي من طهران الى بيروت. كما ان ترامب تمكن من اقناع فرنسا وانكلترا بارسال قوات اضافية الى سوريا...
يبدو ان مخرج الملالي الوحيد هو محاولة فك الحصار والافلات من العقوبات عبر جر ترامب الى المواجهة قبل انطلاق معركة الرئاسة الاميركية، فهل تنجح؟