لم يعد مُجدياً اليوم استعادة الماضي مع كل حادثة. سياسياً صار لزاماً القفز فوق المحليات السياسية وتكرار الارتكابات. المناقشة مع الحزب، أو الأصح، السجال معه صار مضجراً ومملاً. الآن، هناك جزء وازن من اللبنانيين منقسمين وتعتريهم رغبات الانفصال وذلك على الضد من الرواية الـ "14 آذارية" عن "وحدة وطنية" ثابتة.
على المدى الأبعد صار لزاماً صياغة تاريخ حقيقي وواقعي يتمايز عن الرواية المُبسطة لمن بقي من سلالة قوى "14 آذار" بوصفها إطاراً يتطلب السلم على الدوام وبأية أكلاف. صار هناك رواية مُضجرة في السجال مع الحزب. ذلك أن كلاً من المسيحيين والشيعة يجدون جذراً لمغامراتهم التي تشابه المقامرات، خصوصاً في ما يتعلق بـ"الفرح الحزين" عما قدموه من أجل لبنان. السجال بين الفريقين يرذل الآخرين من كل المكونات.
اللبنانيون عملياً هم بحاجة إلى اعتراف واضح وصريح بما يريدونه. اللبنانيون المعنيون بهذا التوصيف هم الذين جعلوا إيمانهم عامودياً وليس سياسياً أو طائفياً. قد يريدون أهدافاً وأشكالاً متضاربة.
إذا ما أراد الثنائي الشيعي، والحزب على وجه الدقة، المضي قدماً في أحوال البلد وأهواله على ما هي عليه، فقد يكون مفيداً حينها القياس على تجارب أخرى وحالات مشابهة من الخارج وجوهرها الانفصال لا العزل بما هو خطيئة أصلية للحركة الوطنية في مواجهة الجبهة اللبنانية، ما أفضى إلى تذرر البلد.
في وضع ملح على البلد ومتصل في أصل بناء الدولة، أي رئاسة الجمهورية، فالصواب السياسي تجاوز الكلام "الضيعجي" في السجال وخصوصاً مع الحزب. هذا حزب صار لزاماً عزله. ما عاد مجدياً على الإطلاق النقاش الماضوي في سيرة تأسيسه وترسيخه وقائعاً مغايرة للبنان أهلاً ووطناً.
حين ننكر على ذواتنا وجوب النقاش في المستقبل، فلا يعود مجدياً أن يطالبنا أحد بالعض على الجرح. وإذا كان الإنكار ستراً لحروب أهلية مكتومة، فالمطلوب هو السكوت على موت الميتين وجرح الأهل واعتبارهم أعداء ومن غير اللبنانيين.
في هذا الحال، بات الأمر واضحاً، سعيٌ لا يمل ولا يكل نحو استيلاء نزاع أهلي سنعرف كيف ندخله لكننا حتماً لن نعرف كيف نخرج منه وبأية أثمان.
لكن في معرض المجاملات اللبنانية، لا يكف ساسة البلد عن المفاضلة الصعبية بالتركيز على المناصفة الأهلية بين المسيحيين والمسلمين. المناصفة موضوع التباهي تتصل بما هو دستوري وسياسي.
الأهم الذي ينبغي الوقوف عنده هو أن أحجام الطوائف تنتفخ أو تصغر بحسب الموارد التي تتيح صناعة أدوار ووظائف لهذه الطائفة دون تلك.
الصناعة السياسية الخارجية
صناعة أدوار ووظائف كل الطوائف والقوى السياسية ليست متوافرة للجميع بالمقدار أو المعيار عينه. ذلك أنها هي نفسها تستند أساساً إلى وزن الخارج المهجوس بالاستثمار السياسي في لبنان ومكوناته. هذا الخارج معني ومهتم على الدوام بقدرته على حصد العوائد السياسية بالتوازي مع ترجمة دعمه قوة داخلية لأي فريق من الأفرقاء.
المناصفة على معناها الدستوري مضمونة وما زالت محفوظة وثابتة ثبات الصخر. لكن النقاش والسجال معها وحولها يرقى إلى الجانب السياسي.
التوازن السياسي أمر مطلوب وملح، وهذا على الأرجح ما يلح عليه ساسة البلد في معرض تمنين بعضهم البعض، أو في سياق المبارزة بين الطوائف عينها.
لكن المعاينة السياسية تستوجب إمعاناً في النظر إلى معنى التوازن السياسي الذي يحيل مباشرة إلى المصلحة اللبنانية العليا في لحظة سياسية صار يهدد فيها اللبنانيون برغبات جامحة نحو الانفصال ، والعودة إلى المعازل الأهلية. وهذا تهديد جدي صار له أنصاره.
حتماً في مراعاة المصلحة اللبنانية العليا وحُسن تحديد مصادرها وفحواها، يكمن نجاح ضعيف أو فشل قوي في صياغة التوازن المطلوب، خصوصاً عند محطات أساسية دستورية الطابع، لكنها سياسية المضمون.
أدوار تغيّرت وتبدّلت
أدوار الطوائف ووظائفها الأصلية في تركيب الكيان اللبناني كلها أصيبت بأعطاب في أعصابها. الحروب التي عمت البلاد على امتداد تاريخه كشفت الجميع على غواية المدد والعدد وأوهام حلم الأقليات بصناعة أوطان قادرة على موازاة دول. فالفارق بين الأوطان والدول كبير جداً على المعنى الحداثوي. الأوطان موروث. الدول ابتكار وتطور.
الطوائف جميعها سببت معوقاً في ترجمة مواردها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية إلى أدوار سياسية. في كثير من الأحيان، أو قل على الدوام، مهمة السياسة هي في التطور الطبيعي للدولة وازدهارها الاقتصادي والثقافي، وفي قدرتها الأصلية على ابتداع ثقافات العيش على معناها الحداثوي وليس البدائي. بمعنى أدقّ القدرة على العيش وسط الفنون والموسيقى والرسم والعالم الرقمي، وشرط هذا كله القدرة على التطلع الى المستقبل.
المناصفة وأوهام الأقليات
ما يطرح اليوم من إلحاح على المناصفة لنفي خوف الطوائف من بعضها البعض، أو قل بين جناحي لبنان، على ما يتغنى اللبنانيون سعداء بأهوال التصنيفات، يبدو في بعده الأعمق شديد الآصرة بالاستحقاق الرئاسي. فالمطروح عملياً هو إما شراكة فعلية فيها ما فيها من مناصفة. وهذه بداهة لا يرقى إليها شك لمن يريد سلم البلد وأهله، حتى ولو كان سلماً بارداً حد الجليد. وإما فرض بقوة السلاح يُلغي كل ما هو إدعاء سياسي أو دستوري سيفضي إلى استعادة مواضٍ أهلية الكل يعرف مضمونها ونتائجها.
لبنان في حدوده الحالية، وعلى رغم بعض التداخل مع العدو الإسرائيلي، وكذلك مع سوريا، فهو بلد يتشكل من أقليات لا تستطيع مهما تعاظمت أوزانها وأحجامها ووظائفها أن تنفي على الدوام أدوار شركائها في الوطن. لكن هذا حصل ويحصل في معرض الاستحقاق الرئاسي من خلال إقصاء السُنة والدروز والتعامل مع الوقائع على أنها شيعية ـ مارونية. هذا على وجه الدقة ما ضرب أعصاب البلد وزاد على أعطابها المتراكمة.
هذا الخلل في معنى المناصفة على سياقها السياسي أصاب البلد أكثر فأكثر بأعطاب انكشافه على الخارج، على نحو يهدد مستقبله. سيبقى لبنان معرضاً للإرتكسات في صعوده إلى الدولة طالما هو يرتجي خارجاً ما. في هذا السياق يسعى المرء أن يسخر ويضيف إلى الإدعاءات اللبنانوية أن العالم الرقمي لم يكن ليكون لولا لبنان الذي ينتظر كلمات السر منذ العام 1860. بهذا المعنى يكون لبنان الذي علّم العالم الأبجدية وبقي أقل من وطن وبلد وهو من علّم العالم "الباسوورد – كلمة السر".
الداخل قبل الخارج
الحاكم بفائض السلاح والقوة وإذا ما أراد تجنب أعطاب ما أصاب غيره، عليه ان يتبصر ملياً ـ لا بالبصر والبصيرة ـ بمعنى المكونات اللبنانية التي تتيح بقاء لبنان مستقلاً وسيداً وحراً، على ما يريد الجميع، وعلى ما يدعي هو نفسه والمقصود هنا على وجه الدقة هو الثنائي المسلح حتى الأسنان.
من المكونات هذه المسيحيين اللبنانيين التي تجعل منهم أصحاب دور مقرر وفاعل في الحياة السياسية اللبنانية. وذلك بغض النظر عما اصيبوا به من أعطاب بعد علاقاتهم الخارجية وارتباطاتهم. وعلى من يمثلون المسلمين بكل مسمياتهم التمسك بالمناصفة سياسياً طالما هي ثابتة ومضمونة دستورياً. هكذا تبصر سياسي يعني في واقع الأمر تفويتاً لفرص الخارج في الاستقواء على بعض مكونات الداخل . وبمعنى أدق: الداخل قبل الخارج.
استعصاء لبنان على الزوال
لبنان يستعصي على الزوال إذا ما أعاد صياغة بطاقة تعريف عن ذاته ودوره. الاستعصاء الأشد الذي يحول دون ذواء لبنان هو التمسك بالعيش المشترك، ليس فقط بين المؤمنين والطائفيين، بل مع العلمانيين والملحدين وكل أصناف الهويات. هذا بلد يستحيل أن يستمر بهوية واحدة. لقد سُفحت دماء كثيرة جراء أوهام الهوية التي خاضها وانخرط بها الجميع.
كي يبقى لبنان متمتعاً بفرادته السياسية والثقافية، فالأرجح انه على مكوناته الاستمساك بالمناصفة دستورياً وسياسياً. المناصفة بوصفها شراكة سياسية وليس إقتطاعاً لحصص تعمل بين حدين:
- الأول، ألا يذهب اللبنانيون إلى الانتحار السياسي عبر بناء منعة طوائفهم تأسيساً على وظائف يطلبها الخارج.
- الثاني، ألا يتم الربط بين الأدوار والاحجام السياسية بأوهام القدرة على التحكم بالداخل.
المناصفة على معناها السياسي هذا تمنع ذواء لبنان وتؤكّد فرادته بين دول المنطقة، وعلى أنه بلد مستقل بحجمه ودوره الطبيعيين استناداً الى الداخل ومصلحة البلد العليا. هكذا لا يعود ثمة مجال للحديث والسجال عن استقواء قوة لبنانية على أخرى أو الحديث عن تميّز جماعة وتفردها في التقرير في مستقبل البلد وحاضره وماضيه.
حال البلد صار يستدعي من مكوناته مغادرة المنطقة الرمادية إلى الوضوح السياسي. هذه المغادرة ستطلب تنازلات حتماً. والتنازلات من فضائل السياسة وليس من رذائلها. والتنازلات حالت مراراً وتكراراً وعلى مدى عقود دون انفجار البلد أبنية وجماعات.
المناصفة ليست مسألة دستورية حصراً، وعلى ما يريد البعض تصويرها وتكريسها. المسألة أبعد وأعمق في السياسة. وحدها تعطي للبنان فرادته ومناعته السياسية كي لا يصير على شاكلة محيطه. ومن دونها يعني أن طرفاً وهو الثنائي الشيعي، يريد الحرب الأهلية ويلح عليها توسلاً للتحكم بالبلد وأهله، مقابل طرف يريد الدولة ويلح على ذلك.
*عن صفحة أساس-ميديا