أمام القعر الذي بلغه لبنان اقتصادياً فهناك مسؤولية يجب أن يتحملها من أوصل البلد إلى هذا المستوى الإنحداري. وتحديد المسؤولية وتعينها يكون بنقاش ومساءلة السياسات المتعاقبة على امتداد العقود الثلاثة. فخلال هذه المدة لم يُسجل للمنظومة السياسية الحاكمة بقضها وقضيضها أن فعلت شيئاً يُرتجى منه خيراً. فلا استفادت من النظام المصرفي وقدراته الاستثنائية على توفير سيولة وبالعملة الصلبة لبناء دولة قوية. ولا هي امتنعت عن سياسة تناتش الدولة وحصحصتها لصالح الطوائف والزبائنيات الحزبية.
ولم يبق طرفٌ من أطراف المنظومة السياسية المتعاقبة إلا وشارك في ضرب مشروع قيام الدولة. وفي زمن الوصاية السورية ذهبوا جميعهم للاستقواء بدمشق واستخباراتها وجيشها على بعضهم البعض ولتغليب منطق المحاصصة ومن دون أن يرجف لهم جفن وهم يغذون محسوبياتهم بودائع اللبنانيين والعرب الذين محضوا ثقتهم للنظام المصرفي وشفافيته وملاءته. وجميعهم لم يرف لهم جفن وهم يصدعون مشروع بناء الدولة وقوة النظام المصرفي جراء الأزمات الداخلية وأحياناً كثيرة جراء مسائل شخصية لا تتصل ببناء الدولة بأي شكل من الأشكال بل بتعيين هذا أو ذاك . هذا ما استثنينا الحروب الطاحنة مع العدو الإسرائيلي. وهذه كانت لها أكلاف كثيرة وعالية جداً.
الآن انهارت الليرة أمام الدولار. وانحدرت القدرة الشرائية إلى مستويات غير مسبوقة. وهذا كله حصل بعدما توقف البنك المركزي عن دعم الليرة بعدما فعل ذلك منذ العام 1993 وعلى امتداد 27 عاماً ما وفر للبنانيين مستوى معيشي محترم وكان محل اعتبار على الخطوط البيانية لقياس مستويات المعيشة ومعدلات دخل الفرد على مستوى المنطقة.
وطيلة العقود الثلاثة هذه لم تقم أي حكومة ومعها المجلس النيابي وسائرالمنظومة السياسية كلها ببناء اي استراتيجية سياسية واقتصادية وأمنية تحمي من خلالها البلد وبالتالي الاقتصاد الوطني. وها هي الليرة تسقط إلى مستويات غير مسبوقة منذ اللحظة الأولى لبرنامج حكومة حسان دياب التي توقعت في مشروعها الانقاذي. وها هم اللبنانيون يعودون وعلى المستوى المعيشي 27 عاماً إلى الوراء، فيما رئيس الحكومة يتلهى بتدبيج الوجدانيات ليطل بها على اللبنانيين، وهي لا تغني ولا تسمن من جوع.
حسناً، لنتجاوز الماضي الفظيع لكل الطبقة السياسية، ولنبحث في الحاضر. فقد جاءت حكومة حزب الله المقنعة باسم الدكتور حسان دياب على أساس أنها تحمل مشروعاً انقاذياً، وللأسف كان ما كان جراء رفضها غير المبرر للتعاون مع النظام المصرفي، وأيضاً جراء رفضها طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي. فقد توقف البنك المركزي ومعه سائر المصارف التجارية عن إقراض الدولة التي لم تسدد ما عليها من ديون.
ولنذهب أبعد من ذلك في نقاش ومساءلة الحاضر. ماذا فعلت الحكومة لوقف الانهيار إذا كان متعذراً عليها النهوض؟ هل حلت موضوع الكهرباء، وهو القطاع الذي استنزف نصف حجم الدين بالتوازي مع مافيا المولدات التي أفرغت جيوب اللبنانيين؟ وهل أوقفت مزاريب الهدر؟ هل لديها أي تصور لاستعادة ما يسمى "الاموال المنهوبة" علما ان هذه الأخيرة يستحيل استرجاعها فقد أُنفقت لتمويلى الطوائف والمحازبين؟ هل قوننت موضوع الاملاك البحرية والنهرية؟ هل استطاعت تحصيل الحد الأدنى من ضرائب تتوجب امبراطوريات التشويه البيئي من اسمنت ومقالع صخرية ومرامل؟ هلى خفضت رواتب المسؤولين والنواب والوزراء؟ هل اعادت النظر بالتعويضات "المليونية" في هذا القطاع أو ذاك؟ هل ألغت المُخصصصات والسفريات لهذه الوزارة او تلك؟ هل يمكن لها أن تُعرف علمياً واقتصادياً مؤتمر سيدر غير انه ديون اضافية على الخزينة؟ هل لها ان تجيب من يحدد مستوى الفوائد على الدين؟ وهل يمكن فصل مستوى الفوائد عن مستوى المخاطر السياسية والاقتصادية والأمنية في بلد كل عيشه اليومي هو الإقامة على خط التوترات والاهتزازات؟ كل هذه الإسئلة تنتظر الإجابة. وإلى حينه تبقى الحكومة الحالية ومعها الحكومات السابقة وكذلك المجالس النيابية المتعاقبة هم المسؤولون أمام القطاع المصرفي وأمام الناس. وعلى الطريقة اللبنانية "اللي طلعوا الحمار على السطح يطلعوا ينزلوه".
كمال الأسمر - كاتب سياسي