أن تخرج الموجة الثانية لانتفاضة الشارع من طرابلس فهذا أمرٌ غير مستغرب، ليس لأنّ المدينة تعدّ الأكثر فقراً على الساحل الشرقي للمتوسّط وحسب، بل لأنّ الاحتقان الاجتماعي بسبب تردّي الأوضاع المعيشية والتفاوت الكبير بين زعماء المدينة وناسها، معطوفٌ على احتقان سياسي عميق تعبّر عنه المدينة الشمالية بأشكال مختلفة منذ إغتيال الرئيس رفيق الحريري وما استتبعه من أحداث سياسية وأمنية.
فبغضّ النظر عن خلفيات الاحتجاجات الليلية في طرابلس وجهاتها ووجهاتها، فإنّها تأتي ضمن سياق سياسي وأمني متواصل منذ العام 2005، ومؤدّاه تقويض الفاعلية السياسية للسنّة اللبنانيين؛ وقد كان آخر فصول هذا المنحى "تعيين" رئيس حكومة لا تمثيلَ سياسيّاً له، بينما رئيسا الجمهورية والمجلس النيابي ممتلئا التمثيل في طائفتيهما. والأغرب أنّ هذا الاختلال في التمثيل الطائفي للرئاسات الثلاث، جاء بعدما كانت تسوية العام 2016 قد تأّسّست على مبدأ ترئيس الأقوياء في طوائفهم، فإذا به (المبدأ) يقتصر، في آخر الأمر، على الرئاستين الأولى والثالثة دون الثانية.
ثمّ، فلو كان الضغط الشديد على السنّية السياسيّة والأهلية يأتي ضمن حيّز لبناني وحسب لكان الأمر أقلّ وطأةً؛ إلّا أنّ السنّة اللبنانيين ينظرون إلى هذا الضغط كحلقة من حلقات التضييق على السنّة العرب على امتداد الهلال الخصيب، من العراق ثمّ سوريا فلبنان. وكم كثرت في السنوات العشر الماضية الأحداث التي لم يُعرف كيف بدأت ولا كيف انتهت في طرابلس وبيروت وصيدا، لكن ما خَلُصت إليه عزّز اليقين أنّ كفّة الغموض والظلم في تلك الحوادث كانت دائماً راجحة على كفّة الوضوح والعدالة.
والطامة الكبرى أنّ لبنان الذي خبر مآسي الاقتتال الأهلي لم يشكّل إستثناءً عن بقية دول الصراع المذهبي/السياسي في المنطقة وإن لم يغرق في الأهوال التي غرقت فيها هذه الدول؛ فهو عوض أن يكون مساحة تهدئة وتوازن في محيط ملتهب، استحال جزءاً من مساحة التوتّر والصراع منذ العام 2005، وثمّ مع ذهاب "حزب الله" للقتال في سوريا والعراق وصولاً إلى اليمن. وإذا كانت سياسات "حزب الله" مرهونة بالسياسات الإيرانية التوسّعية، فإنّ ما يستعصي على الفهم ألّا تظهر قيادات وأحزاب كبرى وعياً لخطورة الضغط المنهجي على السنّة اللبنانيين بينما الصراع المذهبي يبلغ أوجَه في الإقليم. لا بل سعى "التيار الوطني الحرّ" مدعوماً من "حزب الله" للاستثمار في هذا الخلل الفادح وتكريس معادلات سياسية قائمة، لا على "قوّة التوازن" وإنّما على "موازين القوى" المحمّلة بأثقال الطائفية والأيديولوجيا والأحلام الأمبراطورية. أولم يعلن الإيرانيون في العام 2015 أنّهم باتوا يسيطرون على أربع عواصم عربية هي صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت؟
والحال هذه فإنّ "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" ما حقّقا مبتغاهما بسواعدهما وحسب، بل بسواعد الأحزاب الأخرى أيضاً والتي كانت تتبنّى مواقف مغايرة لـ"ثنائي مار مخايل". لكن سرعان ما ارتدّ حزبا "القوات اللبنانية" و"المستقبل" إلى "السياسات الضيّقة" بعدما كانت أحداث السابع من أيّار قد حاصرت وليد جنبلاط في الجبل؛ فـ"القوات" أخذ وجهة القانون الارثوذكسي وصولاً إلى التفاهم السياسي مع "الوطني الحر"، و"المستقبل" هبط من عنوان "لبنان أولّا" إلى "الخرزة الزرقا"؛ وإذّاك تدحرجت السياسة إلى الانحطاط والقصور، وقد بلغ هذا التدحرج إحدى ذراه في التسوية الرئاسية التي وعوض أن تفضي إلى الاستقرار، بحسب ما روّج لها، آلت إلى الانهيار؛ ولا عجب في ذلك ما دامت هذه التسوية قد بنيت على غلبة مغلّفة بالتوافق.
أمّا الآن، فما عاد في الإمكان تجاوز مسألتين أساسيتين: الأولى سياسيّة متصّلة بالاختلال ضمن النظام السياسي اللبناني أي بضياع التوازن الوطني على مستوى الطوائف، والثانية إجتماعية اقتصادية وهي إفلاس الدولة وعوز الشعب. وهاتان مسألتان غير منفصلتين البتّة؛ فالاختلال السياسي الذي تسبّبه الغلبة السياسية/الطائفية والتي استجّرت تبديلاً جذرياً في موقع لبنان السياسي من الدول العربية والعالمية المؤثرة، ما كان يمكن أن يؤدي إلّا إلى الاختلال الاقتصادي، لارتباط الأمرين السياسي والاقتصادي معاً، وذلك بالنظر إلى ديناميكيات إقتصاد ما بعد الحرب. والحال هذه فإنّ أي معالجة تقنية للعجز الاقتصادي والمالي لن تستقيم دون معالجة العجز السياسي المتمثّل بإخراج السنّة اللبنانيين من المعادلة الوطنية، التي تعني بحسب توصيف الدكتور رضوان السيّد، "الإسهام في الحفاظ على الدولة واستقلالها، وعلى وحدة اللبنانيين، وعلى المدنية التي كان للسنّة نصيبٌ جليلٌ في بنائها".
ويحيل هذا التوصيف إلى العطب الأساسي الحائل دون تحقيق الدولة واستقلالها ووحدة اللبنانيين، أي اعتلال السلطة الدستورية بسلطة حزبية "إقليمية" أقوى منها ومستتبِعة مقوّضة لها. ومعالجة هذا الاعتلال لا يمكن أن تتمّ إلّا ببناء سياسات وطنية تجبهه، ما دام "النهوض الناجح لا بدّ أن يكون وطنياً وليس ذا أهدافٍ وطنيةٍ فقط" (رضوان السيّد)؛ أي أنّ معالجة المسألة السنية لا تستقيم بإلتمام السنّة اللبنانيين عليها وحسب، وإنمّا بتوجّههم نحو سرديّة وطنيّة تعلو العنوان السياسي الضيّق ويجتمع عليها نصابٌ وطنيٌ تعدّدي. وهو ما يمكن الركون إليه في تجربة "لقاء قرنة شهوان" الذي سارع إلى وضع المسألة المسيحية ضمن سياق وطني، وهذا بالرغم من الإنقسامات داخله بين من يريد مداراة "سلطة الوصاية" بحجّة تحسين شروط المسيحيين في الدولة، ومن يربط تحسين تلك الشروط برفع الوصاية السورية عن لبنان. وهذا أمرٌ يتكرّر الآن ضمن الحيّز السياسي السنّي؛ فبعد أن جُرّبت سياسة "ربط النزاع" وآلت إلى ما آلت إليه من فشل وتخبّط، علت أصوات سنية تقول أنّ معالجة المسألة السنية مشروطة برفع الوصاية الإيرانية عن لبنان، العلّة الأهم للاختلالات الحاصلة وأهمّها "خروج السنّة من المعادلة الوطنية". وهو خروج يأتي، ويا للمفارقة، بعد مئة عام على قيام دولة لبنان الكبير، "التي دعت فيها فرنسا إلى المواطنة فاستجاب المسيحيون لها بحماسة ودافع عنها المسلمون بأجسادهم"، بحسب صيغة إدمون رباط.
إيلي القصيفي