لم يسبق أن ابتٌلي لبنان بمحنة وجودية كالتي يعيشها راهناً . حتى الحرب العبثية وجنونها المستطير لم يهددا جمهورية الأرز بمقتلٍ كما هي الحال الآن . والخطير جداً على البلد ويستدعي أسئلة كثيرة وكبيرة هو كيف التصرف بإزاء استسهال ورعونة من حكومة كان يُفترض أنها تتمتع بحد أدنى من العقلانية والذكاء كمبرر لوجودها . وتأتي هذه السلطة مصحوبةً بـ "نكبة" سياسية وأمنية وعسكرية اسمها "حزب الله" الذي يستثمر كل شيء ، وبكل ما أوتيَ من عناصر قوة لاستهداف أيقونة لبنان ، ألا وهي النظام المصرفي.
محنة لبنان الراهنة هي وجودية بكل معنى الكلمة . وتزداد وطأتها جراء انسداد الأفق وغياب الحظوظ حتى باحتمال لنهاية النفق الذي أدخلنا به حزب الله ومعه منظومة سياسية مهمومة بالأداء الدعائي الشعبوي تاركة أمر البلد وأهله لرجاء إلهي لا يعرف أحدٌ موعده . فبدلاً من ان تبادر الحكومة إلى شراكة ضرورية وواجبة مع النظام المصرفي بمعناه العريض الذي يشتمل على حاكم المصرف وجمعية المصارف لمعالجة إفلاس هي مسؤولة عنه من ألفه إلى يائه ، فانها تذهب إلى "شراكة مُستترة" مع حزب الله الذي هو السبب الأساس في ما آلت إليه الأمور.
الرداءة بلغت حد ذهاب الشريكان (الحكومة والحزب) الى اتهام القطاع المصرفي بالمسؤولية عن الإنهيار الحاصل . الشريك الأول ، وهو الحكومة ، فعل ما فعله إما عن عدم دراية علمية واقتصادية وهذه مصيبة . وإما عن سوء نية وعندها فـ "المصيبةُ أعظمُ" . أما الشريك الآخر فانه يُنفذ كل ما خطط له سواء لجهة تدمير القطاع الذي يكاد أن يكون الأوحد الذي ما استطاع حزب الله تطويعه لخدمة أغراضه المخالفة للقوانين وللشرعية الدولية ، أو لجهة شحن الغرائز وتوجهيها ضد القطاع المصرفي وجعله هدفاً لانتفاضة 17 تشرين التي كادت أن تُصيب من الحزب مقتلةً.
وفي ظل هذا المشهد ، فان ما يبعث على القلق هو ضياع الحكومة رئيساً واعضاء . ذلك أن رئيس الوزراء حسان دياب قال ثلاثة أمور مختلفة عن بعضها ، بل متعارضة تماماً : الأول ان "ودائع اللبنانيين تبخرت" . أما الآخر، فقد أكد من خلاله "عدم المساس بودائع 98 بالمئة من الناس". وبين الاثنين تحدث عن هيركات وكابيتال كونترول . بين الامور الثلاثة المتعارضة يبرز سؤالان جوهريان :
1 ـ كيف يمكن ألا تمسّ الودائع إذا كانت تبخرت؟
2 ـ كيف يمكن اجراء "الهيركات" أو "الكابيتال كونترول" على ودائع غير موجودة ومتبخرة؟
إذاً، هناك أمر واضح ، وقرار أوضح مهمتهما وضع المودعين بمواجهة المصارف. وإذا أسقطنا هرطقة "تبخر الأموال والودائع" فان ما قالته الحكومين في موضوعي "حماية 98 بالمئة من المودعين " واجراء "الهيركات" ، يعني أن المشكلة هي مشكلة سيولة وليست مشكلة ملاءة.
ومشكلة السيولة سببها الحكومة عندما امتنعت عن سداد الديون المتوجبة عليها للمصارف. وكان طبيعياً جداً ان نصل الى عجز الحكومة عن سداد موجباتها لأنها وعن حق هي حكومة حزب الله وشروره المستطيرة التي أدت إلى ضرب قطاع السياحة جراء جعل البلد صندوقة بريد أمنية وعسكرية . وهكذا وضع لن يؤدي إلا إلى وقف تدفق الاستثمارات والتحويلات الى لبنان بفعل استعداء الدول العربية وتهديد أمنها القومي ، ناهيك عن المواجهة المفتوحة مع المجتمع الدولي.
مسؤولية حزب الله عن الانحدار والانهيار الحاصلين واللذيَن يستمران ليس رمياً لكرة النار عليه . بل هي مسؤولية تؤكدها وقائع عديدة وتمتد الى سنوات كثيرة سابقة . وتحديداً إلى اللحظة الأولى لما بعد انسحاب اسرائيل من جنوب لبنان في أيار من العام 2000 ، ليكشف عن نيته الاستمرار في حيازته السلاح وتطوير منظومته العسكرية بما يتجاوز حتى مقدرات الجيش اللبناني ، على ما يدعي ويُفاخر.
فالحزب بما هو "مُنتج" إيراني خالص لم يترك كبيرة أو صغيرة إلا وارتكبها بحق لبنان . حيناً للقتال نيابة عن الجمهورية الفارسية واستدراج خصومها الى حوار معها ومفاوضاتها على انقاض الوضع اللبناني العام كما حصل في حرب تموز 2006 . وأحياناً للدخول على خط الزلازل والتوترات بغرض الحضور الإقليمي ليؤمن المدى الحيوي والجيوستراتيجي للحرس الثوري الإيراني ، مُسقطاً كل محظورات لبنان وقضايا اتصاله بالعالمين العربي والغربي حتى اصبح البلد في عداد الدول الفاشلة.
كمال الأسمر - كاتب سياسي