صار صعباً جداً إنقاذ لبنان من النوائب التي نزلت فيه وعليه. سواء أكانت تلك المتصلة بجائحة كورونا وتداعياتها اللاحقة. أو سواء ما كان متعلقاً بالاقتصاد الوطني. مصدر الصعوبة وأساسها في هيمنة حزب الله واحكام قبضته على البلد ومقدراته ومنها الأهم ألا وهو القطاع المصرفي الذي حاول اختراقه. لقد حاول حزب الله - ونجح حيث أمكنه ذلك - تسخير القطاع المصرفي كأحد أنواع الأسلحة التي يمكنه استخدامه في الصراع مع المجتمع الدولي. والمُريع في ذلك أن الحزب الإيراني وأحد أقوى أذرع نظام الملالي فعل ما فعله غير آبهٍ لا بصغار المودعين ولا بكبارهم.
ما يحصل في لبنان راهناً هو انقلاب جدي وحقيقي على النظام الاقتصادي الحر. وما يؤكد ذلك هو استسهال رئيس الحكومة حسان دياب والمدعوم من حزب الله الذهاب حد اعلان امتناع لبنان عن دفع سندات اليوروبوندز، ليستتبع ذلك اعلانه ايضاً قراره باقتطاع أموال من ودائع في المصارف. وهذا يعني في جملة ما يعني: إعلان إفلاس لبنان معطوفاً على قرارٍ واضح بتغيير طبيعة النظام الاقتصادي الحر .
وما يبعث على القلق، هو "سكوت" مريب من اللبنانيين على ما حصل ويستمر في الحصول حكومياً، خصوصاً ان وقائع الأمور تفترض أننا مع حكومة اختصاصيين، ما يفترض أن أعضائها تتوفر فيهم ملكات العقل القادر على قياس الأمور وفقاً لمعايير المصلحة الوطنية اللبنانية قياساً على النظام الاقتصادي العالمي. فكان ان جاءت أسوء القرارات من هذه الحكومة بالذات.
إفلاس الدولة الذي يتحمل مسؤوليته ساسة أمعنوا فيه تطييفاً ومذهبةً، عبر استغلال جنى أعمار الناس: اثرياء، وطبقة وسطى، ومحدودي دخل لتمويل طوائفهم المتحزبة بعناوين عديدة وكثيرة، هم من يتحمل المسؤولية عما آلت إليه أحوال البلد. فهؤلاء إلى ما فعلوه في تبديد الدولة ومواردها سكتوا حتى البكم على مسالك حزب الله الحربية والأمنية والسياسية التي جعلت لبنان واللبنانيين مكشوفين وبمواجهة قرارات الشرعيتين العربية والدولية، ناهيك عن تدمير اتفاق الطائف والدستور كضامنيّن للبنانيين جماعات وأفراد.
ما وصل إليه لبنان كان متوقعاً، وكان مرئياً بوضوح لذوي البصيرة السياسية الذين راحوا يدافعون عن لبنان منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي عبر "لقاء قرنة شهوان"، ثم نداء مجلس البطاركة، فمصالحة الجبل، وما تلاها في لقاءات البريستول وصولاً إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وغيره من النواب وقادة الرأي والحزبيين. لقد انطلق هؤلاء من يقين سياسي مفاده اختلاف جذري في ثقافة الحياة مع حزب الله وما يمثله من أيديولوجية تستعدي كل آخر، وتقاتل كل ما هو مُختلف عنها
المدافعون عن لبنان الوطن النهائي، ولبنان الفكرة والرسالة ما قصروا ولا تلكؤوا للحظة عن خوض شتى انواع المواجهات الديموقراطية والسلمية بمواجهة خصم من وزن حزب الله وقدراته العسكرية والأمنية ذات التأثير الإقليمي. لكن أصعب المعارك وأشدها قساوة في نتائجها وتداعياتها كانت في انتخاب السيد ميشال عون رئيساً للجمهورية. فمنذ وصل الرجل الى كرسي قصر الرئاسة حتى سقطت كل الرهانات على دور محتمل له يعيد البلد إلى لحظة توازنه. لكن العكس من ذلك حصل. فقد ازداد موقفه انحيازاً إلى حزب الله حيناً، تعبيراً عن امتنانه لهذا الحزب الأمني والعسكري الذي أوصله الى سدة الرئاسة الأولى بعد شغور استمر لمدة سنتين ونيف، وأحياناً تحت غواية تأمين وصول صهره النائب جبران باسيل.
امام هذا الواقع المأساوي الذي بلغه البلد صار السؤال الأكثر إلحاحاً: هل يمكن انقاذ لبنان؟ الإجابة على هذا السؤال سهلة ومعقدة في آنٍ. هي سهلة إذا تمت إعادة السلطة السياسية إلى الرشد السياسي خصوصاً في قدرتها على بسط سلطتها الفعلية على عموم الجغرافيا اللبنانية من دون استثناء. وهذه ستكون نقطة اعادة الوصل مع الشرعيتين العربية والدولية، ناهيك عن اعادة التوازن للبلد، الذي يجب أن يكون محكوماً بقوة التوازن لا توازن القوى، على ما يقول ويردد النائب السابق ورئيس لقاء سيدة الجبل الدكتور فارس سعيد.
في المقابل، ستزداد صعوبة الإجابة إذا ما استمر حزب الله في إحكام سيطرته على البلد ومؤسساته. في هكذا واقع يصير من المستحيل الحديث عن لبنان الدولة الذي سيبقى ساحةً على غرار ما كانه في زمن الحرب المشؤومة. ولن يُخفف من هذه الصعوبة مناورات قديمة - جديدة يكون جوهرها السياسي الحديث عن "استراتيجية دفاعية" تبقي قرار الحرب والسلم في يد هذا الحزب الي انوجد في الأساس لتنفيذ سياسات إيرانية وطبيعتها الإمبراطورية .
والحال على ما هو عليه، فان الحل ينشطر إلى جزءين- الأول رفع اليد عن القطاع المصرفي وحمايته، أقله وفقاً للقوانين التي رعت نشوئه وصولاً إلى تطوره الراهن. فليس معقولاً ولا مقبولاً مد اليد على ودائع اللبنانيين والعرب. أما الشطر الآخر، فهو في تنازل حزب الله الطوعي عن مشاريعه الإقليمية والعودة إلى لبنان وفقاً للشروط اللبنانية. وعكس ذلك يعني ان هذا الحزب ماضٍ في مغامراته العسكرية والأمنية حتى النهاية حتى ولو كانت الكلفة هي لبنان نفسه. وهذا الكلام ليس افتراءً عليه فقد سبق لأمينه العام ان قال بوضوح انه وبيئته لن يتأثرا لا بعقوبات دولية ولا بحراك شعبي، ذلك ان امدادهما الايراني مستمر ولن يتوقف.
كمال الأسمر كاتب سياسي