في الجزء الأوّل من هذا "البورتريه"، حاولنا الإضاءة على شخصية غسان تويني. في الجزء الثاني أدناه، محاولة لقراءة سيرة جريدة "النهار"، كيف وُلِدَت هويّتها، وأين أصبحت.
"النهار" مغامرة من نوع غريب.
"النهار" ليست جريدة من دون روح غسان تويني مع من اجتمع وإيّاهم على إصدار الجريدة. دعك من انتمائه إلى الحزب السوريّ القوميّ، وتبادل بضع رسائل مع أنطون سعادة قبل أن يطرده الأخير الذي لم يحتمل أدنى "انحراف" عن جادّة صوابه، كما حال كلّ التوتاليتارية. وتردّد، بعد ذاك، أنّه عاد إلى الحزب ليطرده ثانية جورج عبد المسيح، تلميذ "الزعيم".
العلاقة مع الحزب القومي عرفت ذروتها خلال 1957 – 1962، أي في فترة التحالف القوميّ السوريّ – الشمعونيّ، الذي أدرج الطرف الأوّل في متن "الانعزاليّة المسيحيّة". آنذاك سحق فؤاد شهاب محاولةً انقلابيّة مسرحيّة نفّذها القوميّون. أمّا الجامع يومذاك فكان العداء للموجتين الناصرية والعروبية الأيديولوجية اللتين راحتا تقتربان إلى جمهورية البطريرك الياس الحويك، وهو ما أرعب مسيحيّي لبنان، وأقلق شيعته وسُنّته.
في هذا السياق، بدا التوكيد القوميّ على العلمانيّة ملائماً لـ"لنهار". فهو يميّزها عن الطائفيّة الصريحة للأحزاب الطائفيّة المسيحيّة، أي المارونيّة، لا سيّما الكتائب الذي ظلّ طويلاً يستنفر في تويني أرثوذكسيّته وما استبقاه من قوميّته السوريّة، على ما يلاحظ المفكّر حازم صاغية.
ولئن استطاع غسان تويني أن يجعل من جريدة "النهار" ضرورة سياسية وثقافية للبلد وأهله، إلا أنّ هذه العلمانيّة أبقت "النهار" في معسكر مسيحيّ عريض يناهض العروبة البعثية والناصرية. الكبير غسان تويني الذي سلك مسالك الصحافة والسياسة الوعرة، اشتغل على الضدّ من مشاعره "القومية السورية". ذلك أنّ الحزب القوميّ "العلمانيّ" أنشط الأدوات التنظيميّة لطائفة الروم الأرثوذكس، والأشدّ استقبالاً لشبّانهم وناشطيهم الباحثين عن مكان لهم على هامش الثنائيّة المارونيّة ـ السنّيّة. يومذاك درج القول الساخر: العلمانيّة اسم حركيّ للأرثوذكسيّة. علمانيّة "النهار" اندرجت في هذ الخانة.
الأرثوذكسيّة تلتحق بالمارونيّة
في الحيّزين الثقافي والسياسي عام 1957 تشكّلت في بيروت مجموعة "شعر" التي كان أشدَّها ديناميّةً مثقّفون سوريّون ولبنانيّون، مسيحيّون وعلويّون، قوميّون سوريّون ونهاريّون. هؤلاء عارضوا "القَدامة" الشعريّة بقدر معارضتهم الدعوات العروبيّة والوحدويّة التي تهبّ من دمشق والقاهرة وتَجِد (حازم صاغية) "حاضنها البيروتيّ في مجلّة الآداب".
محنة القوميّين في لبنان، عام 1962، التي أفقدت الطائفة الأرثوذكسيّة حزبها الأوّل، ربّما شكّلت بدايات ما بات يُعرف لاحقاً بـ"الطائفة المسيحيّة" العابرة للمذاهب. فالمسيحيّون غير الموارنة بدأوا يلتحقون التحاقاً مباشراً بالأحزاب والزعامات المارونيّة، وهي وجهة عزّزتها حرب السنتين في السبعينيّات قبل أن تكرّسها حرب الجبل في الثمانينيّات.
بدورها، صارت جريدة "النهار" الصوت الأعلى لمعارضة يقودها كميل شمعون، الزعيم المحبّذ دائماً عند تويني، وريمون إدّه، المحبّب دائماً لديه. تلك المعارضة وجدت تتويجها في انتخابات 1968، حين نجح المذكوران في جذب بيار الجميّل إليهما وتشكيل "الحلف الثلاثيّ" الذي أطاح بـ"النهج"، وهو بالتعريف "الشهابيّة".
أمّا القوميّون الذين كانوا لا يزالون في السجون، فتولّت "النهار" نشر مقالاتهم ذات الطابع الخطابيّ والتي حملت أسماء مستعارة كسبع بولس حميدان لأسد الأشقر، وقيس الجردي لإنعام رعد، وعبد الله فرح لعبد الله سعادة. بهذا دفعت آخر ديونها لأنطون سعادة. المفارقة أنّ هؤلاء الذين دخلوا السجن "يمينيّين" وحلفاء للهاشميّين الأردنيين، ما لبثوا، بعد تسوية عقدوها مع الأجهزة الشهابيّة، أن خرجوا منه "يساريّين". وحين تراخت قبضة الدولة الشهابيّة بعد حين، احتلّ عندهم ياسر عرفات وحافظ الأسد الموقع الذي كان يحتلّه كميل شمعون والملك حسين.
جريدة "النهار" التي اعتصمت بلبنانيّتها الصارمة، وكانت الأرثوذكسيّة بدأت تندمج في مسيحيّة عريضة، انقطع بينها وبينهم حبل الصلة. ظلّت صفحات الجريدة تستقبل أسماء قوميّة، وتتّسع لمحرّرين قوميّين، بنسبة تفوق كثيراً نسبة باقي الأحزاب فيها، وبقي غسّان تويني يؤكّد أنّ الفرق بين الحزب القوميّ في زمن أنطون سعادة وبينه اليوم كالفرق "بين الأرض والسماء".
أكلاف اللبنانيّة الصافية
في سياستها الوطنيّة العامّة، مثّلت "النهار" حصناً من الحصون القليلة، بل قلْ النادرة التي تدافع عن لبنان. فهي لم تهرق ماء وجهها، لا أمام "بندقيّة المقاومة" في الستّينيات والسبعينيات، ولا أمام "بطل السلم والحرب وبطل تشرين" في السبعينيات والثمانينيات والعقود التي تلت.
خطفُ ميشال أبو جودة، أبرز معلّقي "النهار" وأحد رئيسَيْ تحريرها، إلى سوريا في 1973، نمّ مبكراً عن خوف النظام السوريّ من الحرّيّات الإعلاميّة في جواره، وكان اعترافاً بأنّها المنبر الأكثر تجسيداً لتلك الحرّيّات وللوطنيّة التي تنهض عليها.
المشكلة "المُستترة" التي عانت منها النهار على الدوام هي تقديسها للسياسة اللبنانية التقليدية. على معنى ما، بقيت ذات مضمون رجعي في هذا السياق، إذ حالت على الدوام دون أن تُقارب علمانيّتها رجال الدين وما ضخّوه في الحياة السياسية اللبنانية من أحقاد وكراهيّات عصبيّة. "فهي ديمقراطيّة في مواجهة التجاوز الشهابيّ على الديمقراطيّة المدعوم بالتوسّعيّة الناصريّة، لكنّها حليفة قوى غير ديمقراطيّة تعارض الميل الشهابيّ إلى بناء دولة واحدة. وهي علمانيّة، شريطة أن لا تتّجه شفرة علمانيّتها صوب رجال الدين، لا سيّما الأرثوذكس منهم. وحينما انفجرت الحرب اليوغوسلافيّة في التسعينيات، شكّلت "النهار" جبهة فرعيّة للصرب الأرثوذكس، ودانت أميركا التي تدعم المسلمين، مستعيدةً العُدّة إيّاها عن مسيحيّي الشرق والمطامح الإمبرياليّة لليانكي".
الصحيفة الليبراليّة
"النهار" ليبراليّة، إلاّ أنّها في هذا، كما في حالة ريمون إدّه، أغراها الدفاع عن حكم الإعدام وعن السرّيّة المصرفيّة، ونطق بلسانها الاقتصاديّ مروان إسكندر، أبرز الاقتصاديّين النيو-ليبراليّين في لبنان.
حتّى "الوطنيّة اللبنانيّة" نفسها، بحسب حازم صاغية، كانت عندها من طينة قوميّة لا تتورّع عن معاملة اللبنانيّة كـ"مرتبة" أكثر منها "جنسيّةً". ولا تخفي روابطها الوثيقة مع "الإمبراطوريّة" اللبنانيّة في المَهاجر ومع "النوابغ" الذين لا يكفّون عن التوالد هناك. وربّما كان ذا دلالة رمزيّة بعيدة على هذا الهوى القوميّ في الوطنيّة اللبنانيّة أنّ لويس الحاج، الذي علّم غسّان تويني الكتابة، كان الحِرَفيّ الرفيع الذي درّب أجيالاً من النهاريّين.
ولأنّ الراحل غسّان يريد نفسه وجهاً سياسيّاً، فهذا ما أسّس أعرافاً في الجريدة (على ما يقول حازم صاغية): فهو حين يخوض انتخابات، كما في 1972، تُعبّأ "النهار" والعاملون فيها لحملته. ودائماً مثّل الملبس والمظهر الخارجيّ عنصر تعيين حادّ للمكانة. فربطات العنق، مثلاً، تُشاهَد في "النهار" كما تُشاهد في البنوك والشركات، لا في الصحف. أمّا البيئة الجغرافيّة الحاضنة للملابس والعلاقات فلا تتكتّم على هويّة طبقيّة. ذاك أنّ "النهار" لا تقيم إلّا في الشوارع والمناطق ذات الأمتار المربّعة الأعلى سعراً، كالحمرا والوسط التجاريّ، فيما يقيم فوقها "النادي الليلي" المعروف باسم "الوايت"، بينما يقع تحتها مطعم الـ"DT"، وهو من أغلى مطاعم بيروت. والحال أنّ المطعم والفندق، علاوة على الملبس، يحتلاّن موقعاً معتبراً في "التقاليد" النهاريّة، مع ما يرتّبه ذلك من إنفاق، عُرف به غسّان ونجله جبران، يشبه بذخ رجال الأعمال أكثر ممّا يشبه إنفاق الصحافيّين.
إلى ذلك، ظلّ الشكل سيّد "النهار". فهي اعتنت بالمهنة، بمعناها التقنيّ، على نحو غير مسبوق. وقد ضمّت شيوخ حرفة يدرّبون الشبّان والشابّات، كان أبرزهم فرنسوا عقل، سليل عائلة الصحافيّين التي امتلكت مبكراً صحيفة "البيرق"، وإميل داغر، إضافة إلى لويس الحاج. بيد أنّ كثيراً من الجهد صُرف على رقابة لغويّة ميّتة دفعت شوقي أبي شقرا، حين تسلّم مسؤولية الصفحة الثقافيّة، إلى "تصحيح" نصّ للجاحظ فاتَهُ أنّ كاتبه كبير العباسيّين.
فيها تميّز كاريكاتور بيار صادق بنقاء الصورة. بلغت أهميّة الكاريكاتور مستوى المقالات المكتوبة، لا بل فاقها. نجح الراحل في جعل رسوماته تعبيراً عن الهموم الوطنية المتشعّبة. كان أقرب إلى الناس.
كان "الملحق" الثقافي، الذي توقّف إصداره منتصف السبعينيات، "لؤلؤة" "النهار" المثقّفة. عاد في التسعينيات "ليدافع" عن لبنان بوجه الاحتلال السوري. آنذاك وفّر منبراً لأصوات نخبوية شابّة شكّلت مفارقة في الحياة السياسية لجهة انحيازها للبنان الجامع. بقي "الملحق" يقاتل وحيداً من بين كلّ الإعلام اللبناني. وباستثناء ملحق "تيارات" في جريدة الحياة، فقد كان لبنان مُهملاً حدّ النسيان. لكن مع الياس خوري، وسمير فرنجية، وعقل العويط، والسفير السابق سيمون كرم، وبلال خبيز، ومحمد الحجيري، ونور الدين الأتاسي، نجح هؤلاء بإعادة ترتيب الأولويّات الوطنية.
سيرة جريدة "النهار" مؤسّسين وكتاباً وصحافيين لا تبعث إلا على حزن مقيم بسبب ما آلت إليه أحوال الصحافة ومعها لبنان كلّه. لقد كانت هذه الصحيفة مصدراً لا ينضب في السياسة والفكر والثقافة. ما انتهت إليه الأحوال صار مؤلماً حدّ الصراخ على البلد وعلى كلّ تتابع الانهيارات.
*عن صفخة أساس-ميديا
مصادر المقال:
ـ كتاب "سرّ المهنة وأسرار أخرى"، دار النهار.
ـ حازم صاغية، "عن أوراق قديمة نسبياً ... عن النهار وآل التويني"، كتاب حدث ذات مرّة، دار الجديد.
ـ محمد أبي سمرا، "غسان تويني حكيم لبنان"، منشورات دار النهار.
ـ باتريك سيل، "نضال رياض الصلح من أجل استقلال لبنان"، دار النهار.
ـ "حرب من أجل الآخرين"، غسان تويني، دار النهار.
ـ مقتطفات من سيرة فارس ساسين عن غسان تويني.
ـ رثاء عبّاس بيضون، أدونيس، علي أومليل، أنسي الحاج.
ـ "استقالة إلى القارىء"، أنسي الحاج، دار الجديد.
ـ أرشيف النهار، ومنه افتتاحيّات غسان تويني.