منذ لحظة انفجار الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان في 17 تشرين الأول الماضي تركّز مجمل القراءات للوضع اللبناني المستجد على الجوانب التقنية لمعالجة هذه الأزمة. وقد عزّز هذا المنحى لدى غالبية السياسيين والمحللين أمران، أوّلهما أنّ واجهة الأزمة اقتصادية ومالية لا سياسية، وثانيهما أنّ الثورة نحت بالقضايا السياسية جانباً وجعلت التصدّي للأزمة المعيشية ومحاربة الفساد أولويتها من دون ربط هذه الأزمة بسبب سياسي مباشر.
غير أنّ تراجع حركة الشارع المنتفض مع تشكيل حكومة الرئيس حسان دياب، فضلاً عن تطوّرات الأزمة المالية لاسيما مع بروز تحدّي استحقاق سندات اليوروبوندز في التاسع من آذار المقبل، فتح الملف اللبناني على مدى سياسي جديد خصوصاً مع طلب مشورة صندوق النقد الدولي، ما يعني عمليّا بداية تدويل الأزمة اللبنانية. وهو الأمر الذي بدأ "حزب الله" باكراً بالتحسّب له والعمل على تجنبّه، وقد دعت كتلة "الوفاء للمقاومة" في بيانها الخميس الماضي إلى "ايجاد المعالجات والحلول الوطنية التي تخفف من حدة الأزمة أولا، وتحمي الإرادة والقرار الوطني من جهة أخرى"، مشيرة إلى أنّ "الارتهان والتبعية ليسا قدرا ولا محل لهما بين خيارات اللبنانيين السياديين".
هذا الواقع السياسي الجديد الذي فرضه تطوّر الأزمة المالية وصولاً إلى الاستعانة بصندوق النقد الدولي أعاد إلى الواجهة الطبيعة السياسية للأزمة والمتمثلة بما عدّته كتلة "الوفاء للمقاومة" نفسها في بيانها الخميس الماضي "تعرض لبنان لتضييق وضغوط مالية ونقدية واقتصادية"، في سياق سياسة "الضغوط القصوى" التي تقودها واشنطن ضدّ طهران وحلفائها في المنطقة وفي مقدّمتهم "حزب الله".
والحال هذه فإنّ أيّ قراءة جديّة للأزمة اللبنانية الراهنة باتت ملزمة بأخذ معطيين أساسيين ومتداخلين في الاعتبار. أولّ هذين المعطيين أنّ توسعة تدخّل صندوق النقد لمعالجة الأزمة المالية والاقتصادية باتت تشكّل العنوان السياسي الرئيسي في لبنان، وثانيهما أنّه لا يمكن عزل التطورات المالية والسياسية في بيروت عن تطورّات الأحداث في الإقليم بدءاً من إيران مروراً بالعراق وسوريا ووصولاً إلى اليمن، حيث تعيش المنطقة بأكملها مرحلة تصعيد عسكري وسياسي.
وبالتالي يتعيّن على أي متابع للأحداث في لبنان أنّ يتوقّف ملياً عند موقف "حزب الله" الرافض لتوسعة تدخّل صندوق النقد الدولي في لبنان من خلال اعتماد برنامجه للخروج من الأزمة المالية، بوصفه موقفاً سياسياً بالدرجة الأولى وإن كان موضوعه المباشر إقتصادياً. وهو ما يحيلنا إلى تصريحات وزير المال الفرنسي برونو لومير من الرياض الأحد الماضي، والتي أشار فيها بطريقة غير مباشرة الى العائق الأساسي أمام مباشرة المساعدة الدولية للبنان والمتمثل بعدم فصل واشنطن بين امكانية التعافي الاقتصادي للبنان وجهودها لمواجهة إيران في المنطقة، ما يعني عملياً أنّ لبنان ساحة من ساحات المواجهة الأميركية الايرانية مثله مثل العراق. وكان وزير الخزانة الأميركية ستيفن منوشن قد أشار الأحد الماضي من الرياض أيضاً، عند سؤاله عن وجود "حزب الله" في لبنان، إلى أن "العقوبات الأميركية هدفها إيقاف الأنشطة الإرهابية التي تقوم بها إيران"، مشددًا على "أنّها تنجح". وما إشارته إلى نجاح هذه العقوبات سوى تأكيد أميركي على النيّة في مواصلتها.
وعليه فإنه من المستحيل فصل موقف "حزب الله" من تدخّل صندوق النقد الدولي في لبنان عن سياق المواجهة الإيرانية الأميركية، في لحظة تواجه فيها طهران تحديّات كبيرة في الداخل الإيراني في ظلّ الإزمة الاقتصادية الخانقة التي تواجهها البلاد بفعل العقوبات الأميركية؛ معطوفة على الأزمة السياسية التي ظهّرتها الانتخابات التشريعية الأخيرة لاسيما لجهة تسجيل أدنى نسبة مشاركة منذ قيام الجمهورية؛ فضلاً عن أزمة تفشّي "كورونا" في غير مدينة إيرانية (سجّلت طهران ثاني أعلى معدّل للوفيات من جراء الفيروس) ما ينذر عملياً بتداعيات اقتصادية وحتى سياسية على الدولة الإيرانية التي باتت شبه معزولة بفعل إغلاق الدول المجاورة حدودها البرية معها ناهيكَ عن ايقاف العديد من الدول الرحلات الجوية إلى المطارات الايرانية. كذلك فإنّ طهران تواجه تحديات أساسية في العراق الذي كان حتّى الأمس القريب ساحة نفوذ أساسية لها، إلّا أن المشهد العراقي تبدّل مع اندلاع الانتفاضة وتحديداً في محافظات الجنوب "الشيعية"، وما تلاها من فوضى سياسية أربكت طهران وما تزال تربكها، وقد جاء اغتيال الجنرال قاسم سليماني في لحظة الفوضى السياسية والأمنية تلك في العراق. كذلك فإنّ الساحة السورية ليست أقلّ ارباكاً لطهران من الساحة العراقية، ففي سوريا تواصل اسرائيل استهداف المواقع الإيرانية وفق استراتيجيا تهدف في نهاية المطاف الى إنهاء النفوذ الايراني في هذا البلد المنكوب بالحروب المتواصلة.
أمّا في لبنان فإنّ "حزب الله" الذي كان في وضعية "رابح رابح" في ظلّ المعادلة السياسية التي أفرزتها "التسوية الرئاسية" في العام 2016، وجد نفسه بعد انفراط عقد هذه التسوية، بفعل استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري على وقع الاحتجاجات في الشارع، مضّطراً إلى أن يضع نفسه أكثر في واجهة الأحداث السياسية، وهو ما يعرّضه تلقائياً لمزيد من الضغوط. وما رفض السيّد حسن نصرالله لتسمية حكومة حسان دياب بحكومة "حزب الله" سوى دليل إلى سعي الحزب لإدارة معركته في لبنان من الخلف والاحتماء بالحكومة التي تقع على عاتقها الإدارة التقنية للأزمة. إلا أنّ احتمالات تدويل الأزمة المالية جعلت الحزب يطلّ من جديد على المشهد السياسي محاولاً، كما أشيع في بيروت أخيراً، جمع حلفائه الأقربين (على تبايناتهم) لضمان موقفهم من رفض برنامج "النقد الدولي". وهو رفض يرى البعض أنه لن يكون مطلقاً، إذ سيضطّر "حزب الله" للقبول ببرنامج الصندوق كما سبق أن قبل بمشورته بعد أن كان رفضها. وحجة هؤلاء أنّ الحزب كما سبق أن رفض القرار 1701 ثمّ عاد وقبل به، وكما رفض انشاء المحكمة الدولية ثمّ عاد وغضّ الطرف عن تمويلها من قبل حكومات كان ممثّلاً فيها، سيقبل برنامج صندق النقد، لأنّه ليس أمام لبنان من سبيل لحلّ أزمته الخطيرة سوى التعاون البرنامجي مع الصندوق إيّاه. لكن الحزب برفضه هذا، يحاول، بحسب مراقبين، أن يرفع سقف التفاوض السياسي للدولة اللبنانية مع الصندوق الدولي في لحظة تبلغ المواجهة الأميركية الايرانية أوجها، وفي وقت تتعرض إيران لضغوط داخلية وخارجية غير مسبوقة. كما أنّ الحزب يسعى بطبيعة الحال إلى تقليص "الوصاية" المالية الدولية على لبنان الى الحدود الدنيا الممكنة، لأنّه كلّما توسّعت هذه الوصاية تقلّص نفوذ الحزب في الدوائر المالية والاقتصادية للدولة. فهل يتجرّع "حزب الله" "كأس السمّ"؟
إيلي القصيفي - النهار