تقودني الأوضاع الكارثية التي يعيش فيها ويعاني وطننا، والمخاطر الكبرى التي تهدّده ليس فقط في المجال الاقتصادي والاجتماعي بل حتى في وحدته ووحدة مكوناته، تقودني هذ الأوضاع الى التذكير بالتجربة الفذّة للرئيس فؤاد شهاب المتمثلة بالجمهورية الفريدة من نوعها في تاريخ لبنان الحديث المرتبطة باسمه. أضيف الى ذلك ما ارتبط ببعض السمات التي ميّزت شخصية الرئيس شهاب. لكن التذكير به وبجمهوريته لا يعني بالمطلق النقل الحرفي له ولها. فالمهم في هذه الاستعادة للتاريخ هو لجعل اللبنانيين يدركون أنهم شعب حقيقي وأن لهم تاريخاً قديماً وحديثاً يستحق منهم أن يستعيدوا سمات شخصية وطنهم والشخصية التي عرفوا بها والتي غيّبتها ولا تزال تغيبّها السلطات الفاسدة الحاكمة في العقود الأخيرة عقداً بعد عقد وصولاً الى هذه المرحلة التي أعطيناها وأعطاها معنا العالم صفة المرحلة الكارثية.
لقد كُتب الكثير عن المرحلة الشهابية. لكن تلك الكتب لم تصل الى الجمهور الأكبر من اللبنانيين. دليل على ذلك أننا في الوقت الذي نواجه فيه الأزمة التي يعيشها بلدنا، ونحاول التصدي للواقع الكارثي بما في ذلك في زمن الثورة التي انطلقت بمواجهة الكارثة ولإحداث التغيير، إننا لم نجرِ قراءة عميقة لتاريخنا القديم والحديث بما في ذلك قراءة التجربة المتصلة بالرئيس فؤاد شهاب وبجمهوريته الفريدة. وهذا ما سأحاول هنا التذكير به وبجمهوريته وبالسمات الخاصة في كليهما.
لقد أتيح لي أن أتابع منذ مطالع الخمسينات سيرة الجنرال فؤاد شهاب عندما كان قائداً للجيش بعد الاستقلال. وكان قبل ذلك في الفترة الأخيرة من الانتداب مع شريكه الجنرال الأحمر جميل لحود يعملان على تأسيس الجيش الوطني. و قد اختار الجنرال لحود بعد الاستقلال العمل السياسي نمطاً لحياته. وانتخب نائباً في العام 1964 ثم عُيّن وزيراً في العام 1966 في حكومة الرئيس عبدالله اليافي في عهد الرئيس شارل حلو في أعقاب أزمة بنك أنترا، عُيّن باسم جبهة الأحزاب والشخصيات الوطنية التي كان يرأسها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الشهيد كمال جنبلاط. وكان الجنرال لحود عضواً في الجبهة. وكنت أنا وجورج حاوي نمثل الحزب الشيوعي فيها وكان محسن ابراهيم يمثل حركة القوميين العرب. أما الجنرال فؤاد شهاب فقد بقي في موقعه في الجيش وعُيّن قائداً له حتى أواخر العام 1958 الذي انتخب فيه رئيساً للجمهورية.
وأشهدُ أن الرئيس شهاب قد تميّز وهو في موقعه قائداً للجيش بسمات وطنية عبّرت عنها مواقفه التي اذكر منها اثنتين: السمة الأولى تتمثل في أنه عندما فُرض على الرئيس بشارة الخوري الاستقالة تحت ضغط الحركة الديموقراطية المعارضة له باسم الجبهة الاشتراكية طُلب من الجنرال فؤاد شهاب أن يترأس حكومة تشرف على الانتخابات الرئاسية. وفور انتخاب الرئيس كميل شمعون رئيساً للبلاد استقال شهاب من رئاسة الحكومة ورفض كل الضغوط التي مورست عليه للبقاء على رأسها معتبراً أنه كقائد للجيش لا يقبل أن يكون رئيساً للحكومة كمهمة موقتة كُلف بها.
السمة الثانية تتمثل في موقفه بمنع الجيش من التدخل في زمن الثورة التي قامت ضد الرئيس شمعون في ربيع العام 1958 بسبب سياساته الداخلية والخارجية. وهي الثورة التي سرعان ما تحولت الى حربٍ أهلية كان طابعها العام ضد إرادة من أطلقوها طائفية بين المسلمين والمسيحيين. وقد تحوّل الجنرال شهاب في نهاية تلك الحرب الأهلية بقرارٍ داخلي وعربي ودولي الى المرشح الأول لرئاسة الجمهورية. وكان من أوائل ما تميزت به سياسته حرصه على إعادة اللحمة بين اللبنانيين وإزالة الحرب الأهلية. وهو ما عبّر عنه من خلال تشكيل اول حكومة في عهده كانت رباعية مشكّلة من: رشيد كرامي، وحسين العويني، وريمون إده وبيار الجميّل. وأًسندت لريمون إده حقيبة وزارة الداخلية التي استناداً الى موقعه فيها اتخذ قراراً بإعدام مهووس من الطائفة السنية كان قد قتل مواطناً مارونياً.
إذ أعدمه الوزير ريمون إده في منطقة البسطة ، المكان الذي جرى فيه قتل المواطن الماروني. وكانت السمة الثانية للرئيس شهاب من موقعه رئيساً البلاد انفتاحه على العالم العربي. فاتفق مع الرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة على اللقاء بينهما على الحدود بين لبنان وسوريا الإقليم الشرقي للجمهورية العربية المتحدة فجلس كلٌ منهما على مقعد في آخر نقطة من حدود بلده وهو اللقاء الذي تمّ فيه الاتفاق على علاقة حُسن جوار بين البلدين العربيين الشقيقين. وإضافةً الى ما تقدم منذ ولاية عهده حرص على حياد لبنان في أي صراع على الصعيدين العربي والعالمي. وبقيت القضية الفلسطينية تحتل مكانتها الثابتة في وجدانه.
لم تكن مهمة الرئيس شهاب في تلك الفترة مهمة سهلة. إذ كان عليه أن يجتهد لكي يُحدث التغيير الضروري الذي يخرج به البلاد من الأزمة التي كانت تتخبط فيها بفعل الحرب الأهلية من جهة، وأن يحدث تغييراً في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد كضرورة تاريخية كما حددها وفهمها من جهة ثانية. وكان يعرف عنه تكراره الدائم لعبارة ضرورة العودة الكتاب في أي شأن من شؤون البلاد، و»الكتاب هو الدستور والقوانين التي ترتبط به». إذ اعتبر أن من أولويات سلطته وأية سلطة هي احترام الدستور كمبدأ أساسي. وكان من أول اهتماماته أن يحرر البلاد من مخاطر الانقسامات الطائفية. فساوى بين المسلمين والمسيحيين داخل مؤسسات الدولة، محترماً حقوق كل طائفة من الطوائف. وكان من همومه واهتماماته أيضاً أن يعطي للدولة طابعها التحديثي أسوةً بما هي عليه في البلدان المتقدمة. فأنشأ العديد من المؤسسات واختار لكل مؤسسة مسؤولاً فيها من أصحاب الكفاءة من دون أن يتوقف عند مرجعيته السياسية، بما في ذلك من أهل اليسار. وأذكر ثلاثة من هؤلاء: الياس سركيس لرئاسة البنك المركزي والشيوعيان حسن عواضة رئيساً للتفتيش المركزي أو التفتيش المالي (لم أعد أذكر) وسرحان سرحان لرئاسة ديوان المحاسبة وكان هدفه في هذا الإطار أن يجعل الدولة الحديثة دولة لكل اللبنانيين من دون تمييز أو تفريق تُعنى بإحداث التنمية الاقتصادية والاجتماعية في شتى الميادين التي تحتاج إليها البلاد لكي تستكمل تطورها وتقدّمها. على أن يكون الهم الأساسي بالنسبة إليه الإنسان المواطن. وكان من أول إنشغالاته المعرفة الحقيقية للواقع الاجتماعي في البلاد فاستدعى صديقه الفرنسي الأب لوبرييه للاستعانة به في معرفة الواقع الاجتماعي في البلاد، وفي المهمات التي تقتضيها المعرفة بذلك الواقع. فأسس الأب لوبرييه بعثة عرفت باسم «بعثة إرفد» قامت بالمسح الاجتماعي في كل المناطق خلال ثلاث سنوات وخرجت بالاستنتاج التالي:
1 - التمركز للثروة، حيث 4 بالمئة من السكان يحوزون على 30 بالمئة من الدخل الوطني ويتحكمون بسلطة القرار الاقتصادي، سلطة الأوليغارشي الاقتصادي، مقابل 50 بالمئة من الفقراء يحوزون على 18 بالمئة.
2 - الاختلالات الجغرافية ما بين الطوائف والمناطق.
3 - ضعف وغياب مشروع شامل وملموس للدولة اللبنانية.
ومعروف أنه كان لاستنتاجات بعثة إرفد دور مهم في القرارات التي اتخذها الرئيس فؤاد شهاب لمعالجة الأوضاع القائمة في البلاد، واتخاذ القرارات التي تعطي للدولة المكانة التي تعود لها في الدول المتقدمة. وأعلن في أعقاب عمل بعثة إرفد بأنه لا سلطة فوق سلطتها استناداً الى الأهمية التي خرجت بها استنتاجاتها.
لن أدخل في الكثير من القرارات المهمة التي اتخذها الرئيس شهاب في عملية تحديث الدولة. فهي كثيرة ومهمة أعطت لجمهوريته فرادتها في تاريخ لبنان الحديث. لكن من الأحداث المؤسفة التي واجهت الرئيس شهاب في عملية التحديث محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها الحزب السوري القومي الاجتماعي. وأعلن يومها استقالته من رئاسة الدولة فخرج اللبنانيون، والمسؤولون من كل المواقع لا سيما النواب الذين ذهبوا إليه وحملوه على الأكف وفرضوا عليه العودة عن الاستقالة من أجل استكمال تلك المحاولة التحديثية التي كان قد بدأها منذ مطالع عهده. لكنه بعد تلك المحاولة الفاشلة اتخذ قراراً بإعطاء دور للمكتب الثاني في الجيش حماية للدولة. وظل يتطور هذا الدور الى أن أصبح في الصيغة التي اتخذها ما بات يُعرف بالنقيض لما عُرف عن الرئيس شهاب من رفضه القاطع للحكم العسكري. وهو الأمر الذي بدأ يكوّن نوعاً من المعارضة لمشروعه استناداً الى دور المكتب الثاني. واتخذت تلك المعارضة في عهد الرئيس شارل حلو الذي خلفه في الرئاسة شكلاً فظّاً أعطى للمعارضة باسم الحلف الثلاثي المشكل من بيار الجميّل وكميل شمعون وريمون إده قوة سياسية وشعبية قادتهم الى الفوز في الانتخابات النيابية في العام 1968. ومعروف أن الرئيس شهاب عندما انتهت ولايته رفض بالمطلق كل المحاولات التي جرت لإقناعه بتعديل الدستور من أجل بقائه في السلطة. واختار خلفاً له الرئيس شارل حلو لكي يكمل مسيرته ويعود بعد انتهاء ولاية حلو الى الرئاسة من جديد في العام 1970. لكن الوقائع سارت في الاتجاه المعاكس لرغبته ولقراره. وأذكر أن الوزير فؤاد بطرس الذي كنت ألتقيه في السنوات الأخيرة من حياته، قال لي ذات مرة أنه عندما كان وزيراً للخارجية في عهد الرئيس شارل حلو ذهب لمقابلة الرئيس فؤاد شهاب ثلاث مرات طالباً منه الحد من تصرفات المكتب الثاني. فكان يجيبه الرئيس شهاب قائلاً: اهتم بشؤونك يا فؤاد. وأضاف الوزير بطرس قائلاً لي بأن الرئيس شهاب استدعاه في العام 1970 عام الانتخابات الرئاسية قائلاً له: يا فؤاد كنت على حق في ما كنت تقوله لي وكنت أنا على خطأ. وأملى عليه نص البيان الذي أعلن فيه عزوفه عن الترشح للانتخابات الرئاسية وفي ما يلي نص البيان:
« أمام الضغوط التي تعرّضتُ لها بُغية ترشيحي للرئاسة الأولى، رأيت من واجبي قبل اتخاذ قرار نهائي في هذا الصدد أن أتفحص بروية معطيات الوضع العام وانعكاساتها على مختلف الميادين، وذلك لأتبيّن الإمكانيات التي يمكن أن تتوافر لي لخدمة بلدي وفقاً لمفهومي الشخصي لهذا الواجب، ولما يتطلّبه هذا الوضع من أجل مستقبل البلاد ومستقبل أبنائه.
وفي ضوء الخبرة التي اكتسبتها خلال ممارستي لمسؤولياتي المتعددة، وخصوصاً في رئاسة البلاد، وانطلاقاً من تطور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن خلال نظرتي الخاصة الى معنى السلطة والمهمات التي يجب أن تؤديها الدولة، والهالة التي يجب تلازمها، ونظراً، الى ما يمكن أن يتلاءم وأسلوبي الخاص بالعمل ولما يمليه ويتطلبه اللبنانيون من رجل خبِر الحكم، يبدو لي الموقف على الوجه الآتي:
إن المؤسســـات السياسية اللبنانية والأصول التقليدية المتبعة في العمل السياسي لم تعد في اعتقادي تشكّل أداة صالحة للنهوض بلبنان وفقاً لما تفرضه السبعينات في جميع الميادين. ذلك إن مؤسساتنا التي تجاوزتها الأنظمة الحديثة في كثير من النواحي سعياً وراء فعالية الحكم، وقوانيننا الانتخابية التي فرضتها أحداث عابرة وموقتة، ونظامنا الاقتصادي الذي يسهل سوء تطبيقه قيام الاحتكارات، كل ذلك لا يفسح المجال للقيام بعمل جديّ على الصعيد الوطني.
إن الغاية من هذا العمل الجدي هي الوصول الى تركيز ديموقراطية برلمانية أصيلة صحيحة ومستقرة، والى إلغاء الاحتكارات ليتوافر العيش الكريم والحياة الفضلى للبنانيين في إطار نظام اقتصادي حر سليم يتيح سبل العمل وتكافؤ الفرص للمواطنين، بحيث تتأمن للجميع الإفادة من عطاءات الديمقراطية الاجتماعية الحقة.
إن الاتصالات التي أجريتها والدراسات التي قمت بها عززت اقتناعي بأن البلاد ليست مهيأة بعد، ولا معدّة، لتقبّل تحولات لا يمكنني تصور اعتمادها إلا في إطار احترام الشرعية والحريات الأساسية التي طالما تمسّكت بها.
وعلى ذلك وإستناداً الى هذه المعطيات، قررت ألا أكون مرشحاً لرئاسة الجمهورية. وفي هذا الوقت الذي أعلن فيه قراري هذا ، أتوجه بالشكر الى السادة النواب والسياسيين والهيئات والمواطنين الذين أولوني ثقتهم، متمنياً لهم التوفيق في خدمة لبنان».
واضح من هذا البيان للرئيس شهاب أنه أدرك بوضوح أمرين: الأول هو الخطأ الذي وقع فيه لإعطاء دور كبير ونافذ للمكتب الثاني في ما يشبه الحزب السياسي وهو ما أشرت إليه. الأمر الثاني الذي لم يشر إليه شهاب هو ما ارتبط بالنتائج التي ترتبت عن هزيمة العام 1967 والضعف الذي واجه الرئيـس جمال عبد الناصر الذي كان حليفاً له بسبب تلك الهزيمة. يضاف الى ذلك بداية دخول الفلسطينيين الى لبنان وبداية تشكّل دور أساسي لهم في البلاد باسم الثورة الفلسطينية. ومعروف أن المقاومة الفلسطينية كانت قد بدأت بالتحول بالتدريج الى دولة داخل الدولة مع بداية السبعينات. وتمثلت البداية الحقيقية لذلك التطور في دخول الفلسطينيين التدريجي وتحولهم الى قوة أساسية داخل البلاد مدعومين من الحركة الوطنية ومن القوى الاسلامية. كان من نتائج ذلك توقيع اتفاق القاهرة الذي أقر في عهد الرئيس شارل حلو في البرلمان وأعطى للمقاومة الفلسطينية الحق في مقاومة النضال المسلح من داخل الأراضي اللبنانية ضد إسرائيل من أجل استعادة الأراضي التي احتلتها. وهي بمجملها وقائع كانت في جوهر القرار الذي اتخذه الرئيس شهاب في العزوف عن الترشُّح للانتخابات الرئاسية. لكنه رشح للرئاســة بدلاً منه الياس سركيس. غير أن سركيس لم يفلح في وضع الخطة التي تقوده الى النجاح. وبرز ذلك في الجلسة الشهيرة له مع أركان الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط، إذ رفض التجاوب مع مطالب الحركة الوطنية لدعمه في الانتخابات. الأمر الذي جعل كمال جنبلاط يعلن رفض تأييده في الانتخابات وقدم باسمه الحركة الوطنية دعماً لخصم سركيس سليمان فرنجية. ذلك أن الحركة الوطنية في ذلك التاريخ ومعها المقاومة الفلسطينية كانت تتمتع بنفوذ كبير في البلاد رغم أنه لم يكن لها في البرلمان سوى نواب قليلين تابعين لجبهة النضال المحسوبة على الحزب الاشتراكي. وكان القرار بدعم فرنجية بدلاً من الياس سركيس قراراً صعباً بالنسبة للحركة الوطنية لا سيما بالنسبة لكمال جنبلاط الذي كان شديد الرغبة في تأييد الياس سركيس. لكن الياس سركيس لم يتجاوب معه. ويومها أعلن جورج حاوي في نهاية الاجتماع مع سركيس للصحافيين بأن الياس سركيس سقط في الامتحان.
أردتُ بهذا الاستعراض السريع لتلك التجربة التاريخية التي ارتبطت باسم الرئيس فؤاد شهاب أن أذكّر اللبنانيين به وبها وأن نحاول الاستفادة من تلك التجربة فيما نحن فيه باسم الثورة، لكي نحرر وطننا من الكارثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمر فيها بلدنا وأن نأخذ من تلك التجربــة الدروس الضرورية.
كريم مروة - نداء الوطن