واحدة من المفارقات اللبنانية هذه الأيام أنّه وفي لحظة استئناف الهجوم على "الحريرية السياسية" وتحميلها مسؤولية التداعي لا بل الانهيار المالي والإقتصادي، فإنّ "الحريرية السياسية" إيّاها تشهد أشدّ أزماتها. فقد انتقل الشقاق إلى داخل "الحريرية السياسية" وعلى نحو تصاعدي، بعدما كانت بشائره قد ظهرت عقب "التسوية الرئاسية" في تشرين من العام 2016؛ ومذّاك ما برحت الديناميّة السنيّة الجديدة تتبلور وتأخذ وتائر وأشكالاً مختلفة، تبعاً للظرف السياسي، وها هي الآن في الواجهة مجدّداً على وقع مشاعر السخط والاستقطاب التي تعيشها الطائفة السنيّة من داخلها، في ظلّ النقمة الشعبية والاحتدام السياسي، ومن خارجها بالنظر إلى الضغط المتواصل على "الإرث" السياسي والاقتصادي لرفيق الحريري.
لقد كانت حجّة الرئيس سعد الحريري إبّان "التسوية الرئاسية" في العام 2016 أنّ هذه التسوية هي الآن أفضل منها بعد سنة أو سنتين؛ فكلما استطال الفراغ الرئاسي تمكّن "حزب الله" من وضع يده أكثر على البلد مستفيداً من رجحان كفّة المعارك في سوريا لمصلحته. فحتّى لا "يهمّش" السنّة اللبنانيون على غرار ما حصل للسنّة السوريين والعراقيين فمن الأفضل "ربط النزاع" مع الحزب والاتفاق مع الرئيس ميشال عون، وإلّا فسيُساق السنّة مغمضي الأعين إلى "مؤتمر تأسيسي" يعيد رسم توازنات النظام لصالح "الشيعية السياسية". لكنّ الرياح لم تجر بما اشتهت سفن الحريري، إذ ما كاد عهد "الرئيس القوي" ينتصف حتّى خرج زعيم "المستقبل" من السلطة تحت ضغط الشارع المنتفض ضدّ سياسة العهد وحكومته. وقد كان خروجه هذا وثمّ "الإتيان" برئيس للحكومة غير مكرّس من قبل المؤسسة السنّية، سببين كافيين لاعتبار النخب السنيّة أنّ طائفتهم قد أخرجت من "المعادلة الوطنية"؛ أي أنّ التسوية التي أبرمت بحجّة إبقاء السنّة ضمن "المعادلة الوطنية" آلت إلى إخراجهم منها.
هذا لا يعني أنّ وجود الحريري في السلطة كان يمثّل للنخب السنّية المعارضة حضوراً "حقيقياً" للطائفة السنّية في "المعادلة الوطنية" ما دامت هذه السلطة ممسوكة من "حزب الله". إلا أنّ بقاء الرئاستين الأولى والثانية "قويتين" بينما جيء برئيس "ضعيف" للحكومة، لم يكن مؤشراً لاختلال التوازن "الميثاقي" وحسب، وإنما مؤشّر تحدّ للطائفة السنية أيضاً؛ وهذا ما يفسّر الاحتقان السياسي السنّي بضفتيه: "تيار المستقبل" من جهة، ومعارضوه ممّن تركوه تباعاً منذ العام 2016 من جهة ثانية.
والحال هذه فإنّ الإنقسام السياسي السنّي هو انقسام بمفعول رجعي؛ أيّ أنّه انقسام يعود بالحدّ الأدنى إلى العام 2016، عندما أقدم سعد الحريري على التنازل لخصومه في أوج الإحتقان السياسي والشعبي السنّي الذي فاقمته الحرب السورية وتداعياتها السياسيّة والأمنية في لبنان. وهو ما يفسّر المراجعة السياسية الشاملة التي قدّمتها المعارضة السنية للسنوات الثلاث الماضية والتي انتهت بخلاصتها إلى أنّ السنّة قد خرجوا فعلاً من "المعادلة الوطنية" بسبب تنازلات سعد الحريري لـ "حزب الله" وميشال عون واللذين لم يقابلاها إلا بالإصرار على المزيد منها.
إذّاك فإنّ الصراع ضمن المؤسّسة السنيّة ليس مفصولاً عن الصراع السياسي في لبنان بارتداداته الإقليمية والدولية، لا بل ثمّة رابط جدلّي بينهما. إذ أنّ الشقاق ضمن "الحريرية السياسية" ما ظهر بهذه الحدّة إلّا عندما اشتدّت "الأزمة الوطنية" بوجهيها: السياسي والاقتصادي- الاجتماعي. وليس قليل الدلالة، في هذا السياق، أنّ تكون المناطق ذات الغالبية السنيّة الأكثر فوراناً في ظلّ الأزمة الحاصلة؛ كما أنّ كلام الرئيس فؤاد السنيورة عن محاولة رئاسة الجمهورية تحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي (وهو كلام ردّدته المؤسسة السنيّة بعد أزمة العام 1973)، وقبله كلام الدكتور رضوان السيّد عن وجوب تحويل مناسبة اعلان حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان إلى "حركة واحتجاج سياسي وشعبي لإدانة حزب الله"، يؤشران إلى وجهتي التصويب السياسي السنّي، أي رئاسة الجمهورية و"حزب الله". وإذا كانت هاتان الوجهتان متقاطعتين فإنّ الفصل بينهما هو أحد وجوه الإنقسام السياسي ضمن "الحريرية السياسية"، ما دام جزء منها يؤثر الاشتباك مع عون على التصدّي للحزب، بينما الجزء الآخر، يركّز على الصراع مع الحزب "بوصفه مسيطراً على الشأن الوطني والسياسي، وعلةً مهمةً في الحصار المضروب على لبنان".
لكن أيّا تكن وجوه الانقسام السنّي ومآلاته فهو يعكس عمق الأزمة السياسيّة في البلد لجهتيها: اختلال التوازن في السلطة، وبالتالي عوض أن تكون الحكومة الجديدة الطريق إلى الحلّ باتت جزءاً من الأزمة، واختلال التوازن في السياسة الخارجية للدولة اللبنانية؛ وهذان اختلالان جُرّبا في زمن "الجمهورية الأولى" وكانا في كلّ مرّة يؤديان إلى العنف، سواء في عهد الرئيس كميل شمعون أو الرئيس سليمان فرنجية، بينما كان عهد الرئيس فؤاد شهاب الأكثر استقراراً بين العهود منذ الاستقلال... وما العبرة إلّا لمن اعتبر!
ايلي القصيفي