ما من شيء يقلق الرئيس فؤاد السنيورة بالقدر الذي تفعله وتتسبب به حالة "اللايقين الوطني" التي وصل إليها لبنان واللبنانيون جراء اهتزاز مرجعية الدستور ووثيقة الوفاق الوطني في الطائف تحت وطأة المناكفات الطائفية والحسابات الشخصية والمصالح الانتخابية الصغيرة، والتي كان من معالمها بروز انقسام واضح بين فريق يتمسك بخيار اتفاق الطائف والدستور، وبين آخر يتطلع إلى آليات من خارج العقد الوطني وتقوم على تبدل موازين القوى الخارجية، وليس على قوة التوازن الوطني الداخلي. وإذ يحدّد الرئيس السنيورة انحيازه إلى الدستور وما قدمه من إصلاحات بالغة الأهمية عبر وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، ولما تقدمه هذه الوثيقة من فهم واقعي لتجارب العيش المشترك للبنانيين على مدى ما يزيد على قرن من الزمن، فإن خشيته تتمثل في ما أسماه "القطيعة" مع جيل الشباب الذين خرج البعض منهم يطالب بإسقاط النظام عن غير دراية بأهميته خصوصاً في ظلّ الظروف الحرجة الراهنة الداخلية والإقليمية والدولية، والتي تتطلب من الجميع حرصاً على التمسك بالشرعيات الوطنية والعربية والدولية للحفاظ على لبنان.
ويعتبر الرئيس السنيورة: أنّ استمرار هذه القطيعة وهذا التقصير في التواصل مع جيل الشباب توجب على جميع المعنيين المسارعة إلى معالجة هذا الاختلال، والعمل على جَسْرِ الهوة المتّسعة مع أولئك الشباب والحوار معهم بشأن ما تعنيه هذه الوثيقة الوطنية وما يعنيه هذا العيش المشترك في بلد مثل لبنان، ولما يعنيه في هذه المنطقة العربية بالذات. وبرأيه، إنّ ما أصبح عليه الوضع الراهن اللبناني ليس وليداً طارئاً، إنما حصل بنتيجة وصايتين متعاقبتين، هما الوصاية السورية والوصاية الإيرانية، واللتان عملتا وأسهمتا بتوافق وتخطيط عميق للحؤول دون التطبيق الصحيح والكامل للدستور ولمندرجات وثيقة الوفاق الوطني. وما بلغه لبنان حصل بتدرج تتحمل قوى 14 آذار جزءًا من هذه المسؤولية، وهي التي كانت قد عملت وضحّت دفاعاً عن السلم الأهلي والعيش المشترك وعن دور الدولة اللبنانية القادرة والعادلة، وعن أهمية المساواة بين المواطنين اللبنانيين في الحقوق والواجبات، وعن العمل من أجل استعادة الاعتبار والاحترام لمعايير الجدارة والكفاءة والاستحقاق في تسلّم المسؤولية لأكْفائها، وإخضاع كل من يتولّى مهمة عامة للمساءلة والمحاسبة المؤسساتية على أساس الأداء. وذلك قبل أن يتسلل التعب والتشرذم إلى صفوفها، وقبل ان تنتقل إلى صفوفها بعض من عدوى "التحزّب الطائفي والمذهبي". ولاسيما بعد أن بدأ كل حزب طائفي يستشعر في ذاته فائض قوة ويخوض بالتالي معركتين: الأولى، لفرض نفسه داخل طائفته؛ والثانية، ضد الطوائف الأخرى، ولِيعيِّن حصته على طريق دخوله إلى "ائتلاف الأقوياء" والذي راح يُخرج ما صار يُعرف بـ"الرؤساء الأقوياء" في طوائفهم.
مواقف السنيورة جاءت في حوار أجرته معه أسرة تحرير "المركز اللبناني للبحوث والدراساتLCRS POLITICA ". وتركَّز على التطورات في لحظة اشتباك سياسي داخلي فيه الكثير من الكلام والسجالات حول الدستور وصلاحيات السلطة التنفيذية، وحول الدور السامي لرئيس الجمهورية الذي أولاه إياه الدستور، والذي جعله رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، وفوق كل النزاعات الحزبية والساهر على احترام الدستور. وفيه أيضاً كلام آخر عن استدعاء الخارج للاستقواء على الداخل، وهو ما يضع لبنان على خط الزلازل السياسية والأمنية والعسكرية. ذلك في حين أنّ المطلوب هو العودة إلى التمسك باتفاق الطائف والدستور، وبالدولة اللبنانية بدورها وسلطتها الكاملة على جميع أراضيها ومرافقها، وباستقلال القضاء، وبمعايير الكفاءة والجدارة والاستحقاق، وكذلك التمسّك والحرص على احترام الشرعيتين العربية الدولية لحماية لبنان مما يعصف به من استعصاءات مزمنة على الإصلاح، بما في ذلك ما استجدّ من استعصاء على تشكيل الحكومة الجديدة على القواعد التي يحددها الدستور، والتي تحترم ما طالب به اللبنانيون من حكومة مستقلّة عن تأثيرات واستتباعات الأحزاب الطائفية والمذهبية. هذه الاستعصاءات أفضت وزادت من حدّة حالة "اللايقين الوطني" السائدة وغير المسبوقة حتى في زمن الحروب الداخلية على اختلاف أمكنتها ومسمياتها. وبحسب قوله فإن ما يحصل حالياً، هو المزيد من انعدام الثقة والتدافع بين المكونات السياسية والطائفية بالتزامن مع انهيارات كارثية تنذر بفوضى سياسية واقتصادية ومالية ونقدية واجتماعية وأمنية عارمة.
الرئيس السنيورة الذي أطلق منذ أيام "مبادرة للعيش المشترك والإنقاذ الوطني"، يؤكّد أن ما فعله جاء نتيجة تصاعد خوفه على مستقبل لبنان، وخوفه على جيل الشباب الذي لم يتمكن من استدخال مرجعية الدستور واتفاق الطائف في وعيه وقيمه وعيشه المشترك. وإذ يؤكد الرئيس السنيورة على مسؤوليته ومسؤولية المنظومات السياسية المتعاقبة منذ أوائل التسعينات عن العجز في التواصل مع الشباب لفهم هواجسهم وأحلامهم، فإنه يُحمِّل المسؤولية على وجه التحديد إلى فريقين سياسيين كبيرين. الأول تمثل بفريقٍ رافضٍ لاتفاق الطائف والدستور منذ البداية، وهو الذي ما فتئ ينشط من أجل تقويضهما وعلى مدى ثلاثين سنة ماضية، بمؤازرة وصايتين خارجيتين، متعاقبتين ومتداخلتين، سورية وإيرانية. وهو ما عُرف بفريق 8 آذار المقطور إلى عربة "حزب الله". أما الفريق الثاني فقد تبنَّى اتفاق الطائف والدستور منذ البداية، ولكنه تدرَّج ووفق سياسة مُمنهجة إلى التخلّي عنهما عملياً، ولاسيما اعتباراً من اتفاق الدوحة 2008 وصولاً إلى التسوية الرئاسية عام 2016، وهو فريق 14 آذار الذي لم يعد فريقاً واحداً بل أجزاء متباينة.
أكثر ما يخشاه الرئيس السنيورة، هو العودة إلى ما عهدناه لدى السياسيين اللبنانيين من الممارسات التي لطالما كانت تنتظر وتراهن على التغيير الذي يمكن أن يحصل على المعادلات الخارجية، معتبراً أن أخطر ما في الوضع الراهن هو عجزُ القوى السياسية المتصدّرة للمشهد عن المبادرة في تحديد وجهةٍ إنقاذية وطنية. كما وفي انشغال كل فريق بالمحافظة على رأسه، في انتظار ما ستُفضي إليه لعبةُ الأمم في المنطقة للتكيُّف طوعاً أو كرهاً مع نتائجها. ولهذه الأسباب بالتحديد أطلق الرئيس السنيورة مبادرته خوفاً من وقوع بعض الأطراف تحت إغراء تمرير اقتراحات انقلابية على طبيعة النظام السياسي اللبناني وعلى صيغة العيش المشترك، في إشارة إلى "المؤتمر التأسيسي" الذي كان قد تحدث عنه صراحة أمين حزب الله، وأيضاً إلى ما يعلنه ويكرره على الدوام رئيس التيار الوطني الحر. والمقلق في هذا السياق هو الوقوع في مربع "المراوحة القاتلة".
وقد انطلق رئيس الحكومة الأسبق في إطلاق مبادرته من اعتباره أنَّ الأزمات القائمة والمتناسلة منذ عقود ليست ناجمةً عن أزمة نظامٍ سياسيّ ثبتَ فشلُه أو قُصورُه بالتجربة كما يزعم البعض "وإنما هي أزمةُ إداراتٍ سياسيةٍ لم تكن في مستوى تسوية الطائف التاريخية"، ولم تكن من مستوى طموحات وآمال اللبنانيين، مشدداً على أنَّ "اتفاق الطائف كان تسويةً تاريخية، واقعيَّة ومنْصِفة ومتوازنة... ولم يكن اتفاقاً بين الطوائف المختلفة". والأهم بالنسبة إليه هو وجوب أن يتعاطى اللبنانيون مع وطنهم كدولة "وليس حاصلاً حسابياً لعديد الطوائف". فالطائف بحسب قناعاته ألغى المعيار العددي الديموغرافي الذي طالما استُخدم سلاحاً في الصراع الطائفي، داعياً إلى التمعن بمعنى إلغاء المعيار العددي الديموغرافي لأن في ذلك ما يضع حداً لمفهوم الأقليات اللبنانية المتجاورة "إذ تصبح كل طائفة جزءًا عضوياً من أكثرية ذات طبيعة تعددية" هي مجموع اللبنانيين، وغير قابلة للاختزال في أحد مكوّناتها وتتكامل فيما بينها لإنتاج وطن الرسالة للبنانيين في جوارهم العربي ومحيطهم الدولي.
يشدد السنيورة على أن الفهم الإيجابي لوثيقة الوفاق الوطني هو جوهر مبادرته للإنقاذ الوطني وعلى قاعدة التزام اتفاق الطائف بما هو عقد اجتماعي- سياسي قائم على العيش المشترك "وينقل اللبناني من وضعيَّة عضو في جماعة طائفية إلى وضعيَّة مواطن في دولة العيش المشترك" وهذا ما يفتح الطريق لزمنٍ لبناني جديد وحَدَاثي.