قارئ تاريخ السودان يُذهَل من كون هذا البلد لم يعرف غير الانقلابات. بعضها أيديولوجي، وغيرها كان انتقامياً. وينشطر التاريخ السوداني الحديث إلى 56 سنة من الانقلابات وحكم العسكريّين. تخلّل ذلك 11 سنة من حكم مدني لم يحقّق تقدّماً ينهض بالبلد من كونه ميداناً للفقر والاحتراب.
الدول التي ترفع شعارات "الحروب" و"المؤامرة" تتقدّم فيها الجيوش على الحكم المدني الديمقراطي. هذا حال السودان. هو حال لم يختلف عن كثير من الدول العربية، باستثناء من كانت منها ملكيّة. الاستثناء المميّز في هذا السياق هو لبنان الذي لا يُعتدَّ عميقاً بتجربته الديمقراطية، بسبب تقدّم الأهلي على الدولتيّ.
استئناف البدء
الخطر الراهن الذي يضرب السودان يستأنف البدء الذي كان في انقلاب إبراهيم عبود عام 1958 بعد عامين على الاستقلال بدعوى "استحالة التوافق داخل الأحزاب" في ظلّ حكومة عبد الله خليل. ذريعة عدم التوافق تعود مجدّداً لتبرز في الحرب بين قوات "الدعم السريع" وبين الجيش السوداني.
الحرب التي يقودها رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أوّل ركن عبد الفتّاح البرهان ضدّ قائد "الدعم السريع" الفريق أوّل محمد حمدان دقلو، المعروف باسم "حميدتي"، لم تكن مفاجئةً بعد تراكم التوتّر منذ استعصاء 2011 حول تسليم العسكر للمدنيين. لكنّ الصدمة كانت في حجم شراسة المعارك التي اجتاحت ثالث أكبر دولة في إفريقيا، "وهو ما أسفر عن مقتل 1,000 شخص وتسبّب بنزوح ولجوء نحو مليون شخص هربوا من الحرب"، بحسب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز".
يزعم الجيش وقوات الدعم السريع أنّهما يريدان مستقبلاً ديمقراطياً. على امتداد التاريخ لم تصنع فوهات البنادق ديمقراطيات، ولا حتى أفلحت في بناء دول، بل على العكس من ذلك، فكلّما تحكّمت بندقية ببلد ما أتت على ما فيه من نواة دولة.
يزعم الطرفان المتحاربان أنّ هدفهما "مستقبل ديمقراطي" عبر الصراع العسكري، وذلك إثر تعثّر الجهود العربية والدولية في فرض نوع من الهدنة. وهذا يعني أنّ ما ينتظر السودان بالغ السوء ما دام الفريقان يحتكمان إلى الميدان وليس إلى الحوار.
الأمور تزداد سوءاً
الأمور بمسارها العسكري الراهن تتّجه نحو ما هو أكثر سوءاً، مع تنامي التحذيرات من "حرب أهلية شاملة"، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز". ما يزيد من حظوظ هذه الحرب أنّ التحدّي الأساسي مستمرّ بين الفصائل المتحاربة وقوات الدعم السريع التي "ما زالت تعتقد أنّ بالإمكان تحقيق نصر عسكري"، بحسب الصحيفة الأميركية.
يفيد احتدام الصراع وانعدام أفقه السياسي أنّ "الحرب الأهلية الشاملة" قاب قوسين أو أدنى. لا يستدعي هذا النوع من الحروب غير تدخّل الخارج، ومنه القوى الأجنبية التي تتطلّع إلى دعم المنتصر. فالسودان جائزة من النوع "الجيوسياسي" لأنّه يطلّ على أكثر ممرّات الشحن ازدحاماً على البحر الأحمر، ناهيك عن احتياطاته الغنيّة من الذهب والنفط والمياه.
التوجّه نحو تدخّل خارجي كشفته صحيفة "نيويورك تايمز" عبر ترجيح احتمال نجاح "قوات الدعم السريع"، وهو ما قد يدفع روسيا إلى تدخّل أكثر عبر قوات "فاغنر" التي عرضت "تقديم صواريخ أرض – جو لقوات الدعم السريع". لكنّ السيناريو الذي يحتاج إلى مزيد من الإضاءة والتنبّه، هو أنّ حرباً طاحنة كهذه ستدفع إلى حدوث تدخّلات كبيرة من دول مجاورة يبلغ عددها سبعاً.
تاريخ يتكرّر
أحوال الخراب التي آل إليها السودان هي على مثال ما آلت إليه أغلب الدول العربية التي حكمتها الديكتاتوريّات العسكرية وعطّلت فيها الأحزاب السياسية والحرّيات الإعلامية. تاريخ الانقلابات في السودان افتتحه عبود عام 1956، ثمّ أسقطته "ثورة شعبية" حكمت 3 سنوات محاولةً وضع أبنية دستورية وبرلمانية، ثمّ ما لبث أن أطاحها جعفر النميري عام 1969 مصحوباً بأهازيج شيوعية وناصرية.
المفارقة أنّ النميري الذي جاء مع شيء من المدنية الممزوج بالشيوعية والناصرية انقلب على ذاته وأطلق حرباً على الجنوب المسيحي لأسلمته. هذا النوع من الحروب كان قد جرّبه عبود خلال تعطيله الحياة السياسية، إذ أصرّ على تعريب الجنوب وأسلمته بالقوّة أيضاً.
في هذا السياق، كانت هناك مفارقة واحدة سجّلها وزير الدفاع عبد الرحمن سوار الذهب عام 1985 عندما أطاح بالنميري وسلّم الحكم للمدنيين الذين باشروا حقبة دستورية برلمانية، لكنّ الفشل كان حليفهم، إذ استولى عمر البشير بلغة إسلامية عارمة على السلطة ليمثّل الأسوأين: الديكتاتورية العسكرية والقمع الديني. كان عام 1989 تاريخ صعود البشير السبب لأسوأ ما ستعيشه السودان .
حكم العسكر، أيّ عسكر، هو بالتعريف خصم الديمقراطية، وبالتالي عدوّ استقرار أيّ دولة. قد تكون هذه الفكرة الوحيدة التي استوعبها البشير فذهب مذهب الاستفتاء على استقلال الجنوب عام 2011، لكنّ ذلك لم يلغِ أنّ الحكم بقي عسكرياً وإسلامياً ولم يعطِ التنمية في البلاد أيّ اهتمام فكان أن عزل الجيش ومنظّمات مدنية البشير عام 2019.
خيبة الأمل
طبعت الحكومة العسكرية – المدنية، التي أطاحت بالبشير وضخّت أملاً بحكم مدني، الحياة السودانية بخيبة أمل جديدة تُضاف إلى تاريخ من الانقلابات والعيش في ظلال العسكر. فهذه الحكومة منذ أن تسلّمت الحكم عام 2019 حتى عام 2022 لم تنجح في تسليم الحكم إلى المدنيين، فكان أن واجه السودان مأساة جديدة.
مآسي السودان كثيفة. منها صراعات الجيش وانقلابه على ذاته، وحرب الجنجويد على المزارعين، وما بين الاثنين هناك حرب الشمال على الجنوب، وحرب الخرطوم على دارفور.
لقد تنقّل السودان من خيبة أمل إلى خسارات دموية على الدوام لأنّ العسكريين الذين حاولوا الحكم مديداً وصلوا إلى السلطة بأفكار رثّة هي شعاراتية أكثر منها عملية. هذه سيرة كلّ العسكر في الحكم ما لم يخلعوا بزّاتهم العسكرية.
*عن صفحة أساس-ميديا