حدّدت روسيا الفدرالية خطرين أساسيين على وجودها:
وهي تسعى إلى تحديدِ طريقٍ ثقافي - حضاري وسياسي خاصٍ بها، على أمل أن ينضمَ إليها في مرحلةٍ لاحقة المعترضون في العالمِ على ما يُسمّى "النظامُ العالمي الجديد"، الذي يتبلورُ مع أحاديةِ القطبِ الأميركي، وكلُ من يدّعي محاربةَ الأصوليات الإسلامية التي تهدّدُ العالمين العربي والغربي.
بعبارةٍ أخرى تبدو السياسة الروسية في العالم وكأنها تسعى إلى إعادةِ إنتاجِ الثُنائية القطبية التي كانت في حقبةِ الحربِ الباردة، محاولةً الإستفادةَ من تحفظاتِ الصين عن الآحادية القطبية، ومن صعودِ قوةٍ إقليمية كبرى في الشرق الأوسط (ايران) ترفعُ شعاراتٍ تصادمية مع القطبِ الأميركي، بينما هي في حقيقةِ الأمر تسعى إلى نوعٍ من الشراكة مع هذا القطب ولو من بابِ المناكفة، مستغلَّةً نفوذِها في بعض مساحات "الحَرَج الأميركي"، لا سيما بعد حربَي أفغانستان والعراق ثم أحداث "الربيع العربي".
وفقاً لتلك النظرة إلى الأمور – وبصرفِ النظر عن واقعيةِ المسعى الروسي، خصوصاً لجهة "الأهلية الإقتصادية" - تسعى الدبلوماسية الروسية إلى نسج علاقاتٍ مميزة مع الدول الإسلامية والعربية ومع كلِ القوى أو التيارات الفكرية والسياسية المناهضة للنظام العالمي الجديد.
تلعبُ الكنيسةُ الأورثودكسية الروسية دوراً مركزياً في رسمِ الدبلوماسية الروسية خاصةً في منطقة الشرق الأوسط وبعد انتخابِ البطريرك كيريللوس في كانون الثاني 2009.
منذ ذلك العام يُسجَّل جُنوح الدبلوماسية الروسية للنظر إلى المنافسة العالمية بين الدول على قاعدة البعد الحضاري – الثقافي أكثر من البعد السياسي، أي بكلامٍ آخر، تسعى الدبلوماسية الروسية إلى تغليبِ الخلافات الحضارية والثقافية على الخلافات السياسية مع النظام العالمي الجديد من جهة ومع التطرف الإسلامي البارز اليوم من جهةٍ ثانية.
توصّلت الكنيسةُ الروسية إلى تحديدِ مبدأ التقابل بين "إسلاموفوبيا" في الغرب تنظرُ إلى الإسلام كدينِ عنفٍ وإرهاب، و"كريستيانوفوبيا" في الشرق تنظرُ إلى المسيحية كنموذجٍ غربي لهيمنةٍ أحادية على العالم فقدت قيمها الإنسانية.
في الحوارِ مع الإسلام، تُغلِّبُ الكنيسةُ الأورثودكسية هويتَها المشرقية المنفصلة عن كنائس الغرب والتي من خلالِها تسعى روسيا إلى بناءِ شراكةٍ مشرقية مع الحضارة الإسلامية محررةٍ من ماضي الحروب الصليبية وتصادمُ الحضارات الذي برزَ بعد أحداث 11 أيلول 2001 خاصة.
خارج الكنيسة نلاحظُ أيضاً بروزَ منظماتٍ غير حكومية NGO مقرّبة من الكرملين، تسعى بدورها إلى حوار الحضارات. من أبرز هذه الجمعيات تلك التي تأسست في العام 2002 من قبل YAKUNIN، والتي تسعى إلى أن تكونَ الصورةُ المعاكسة أو المقابلة لمؤتمرِ DAVOS الغربي، الداعم لهندسةِ النظام العالمي الجديد. وتسعى هذه المنظمة إلى تأمينِ التواصل بين النخبِ الروسية والعالم الإسلامي من خلالِ تنظيمِ الندوات وتسليمِ الجوائزِ لقادةٍ عرب ومسلمين مثلَ الرئيس الإيراني خاتمي والملك عبدالله الثاني، ملك الأردن.
من بينِ أهدافِ الدبلوماسية الروسية ما يُسمّى "الدفاع عن الأقليات المسيحية" في منطقة الشرق الأوسط، وتقدّمُ نفسَها – روسيا الفدرالية – المدافعة عن حقوقِ هذه الأقليات في وجهِ الغربِ الذي، وبنظرِ هذه الدبلوماسية، يُغلِّبُ مصالِحَه الخاصة على القيمِ الإنسانية.
يحتلُّ البعدُ الديني مكاناً مميزاً في صلبِ الدبلوماسية الروسية وفي روسيا الفدرالية نفسَها هي التي خَلَفَت الإتحاد السوفياتي، حتى بُتنا نصدّقُ أن روسيا انتقلت من إتحادِ العرقيات إلى اتحادِ كنائسِ الأورثودكس في العالم.
إن دعمَ روسيا الإتحادية للنظام السوري منذ العام 2011 بالعتاد والدبلوماسية ضربَ صورةَ دبلوماسيتِها التي سعت بالتعاونِ مع الكنيسة الأورثودكسية والنخبِ الروسية إلى تغليبِ الجانبِ الأخلاقي والإنساني في مقابلِ السياسة الغربية القائمة على المصالحِ فقط.
وإذا كانت شعوبُ المنطقة قد سجّلت ملاحظاتٍ عديدة على سلوكِ ما يُسمى النظام العالمي الجديد بزعامةِ أميركا بالنسبة للأزمة السوريةِ تحديداً ولقضيةِ فلسطين، فإنها تًسجّلُ أيضاً ملاحظاتٍ أكبر على السياسة الروسية التي ينبغي أن تكونَ أكثرَ تفهماً لقضاياها العادلة.
وإذ تعتبر شعوبُ المنطقة أن نموذج تغيير الأنظمة بـ"الضربة العسكرية الأميركية"، من الخارجِ كما في أفغانستان والعراق، قد أثبت فشلَه، فهي لا تفهمُ كيف أن روسيا تمنعُ هذه الشعوب العربية من استكمالِ عملية تغييرِ الأنظمة من الداخل من خلال الحراكِ الداخلي والوطني كما يحصلُ اليوم في سوريا.
وإذا كانت الحججُ المقدمة من قبل الروس ترتكزُ على الخوفِ من وصولِ الإسلام المتطرف للحكم بدلَ الأنظمة الإستبدادية مما سيشكّلُ عليها أخطاراً من الخارج والداخل، فالأحرى بروسيا أن تسعى إلى تغليبِ ودعمِ الطابعِ المدني للربيع العربي الذي أثبتَ حضورَه في تونس ومصر مثلاً.
السؤالُ المطروح اليوم: هل سياسةُ الرئيس بوتين مقبولة من غالبيةِ النخبِ السياسية الروسية؟
ونسألُ، كيف تعاملت النخبُ الثقافية الروسية مع الثورةِ الخضراء التي انطلقَت في طهران في الـ 2009 ومع الربيع العربي الذي انطلقَ في العام 2010؟
في هذا المجال خصصت مجلة RUSSIA IN GLOBAL AFFAIRS دراسةً حول الموضوع، وأكّدت أن سياسة الرئيس بوتين لا تتناسبُ تماماً مع تطلعات شرائحٍ واسعة من الشعب الروسي وقدمت على سبيل المثال دعم مسلمي روسيا للربيع العربي!
إن الدبلوماسية الروسية في تعاملِها بحذرٍ شديد مع التغييراتِ الكبرى التي تحصلُ في المنطقة واعتمادها سياسة الحفاظِ على النظام العربي القديم بحجةِ أن التغييِر يفتحُ البابَ أمام الفوضى... تبدو(هذه الدبلوماسية) في اتجاهٍ مخالفٍ لمنطقِ التاريخ في منطقتِنا العربية.. ولا ننسى أن أكثرَ معاناتنِا في لبنان إنما تأتي من نظامين: السوري والإيراني، فضلاً بطبيعةِ الحال عن النظامِ الاسرائيلي!
ختاماً، ينقسم الحوار الإسلامي - المسيحي، في عالمنا اليوم، إلى خطين:
وما نطلبُه هو الإبتعادَ عن خطوطِ التوتّر العالي في المنطقة واعتمادَ خبرة وتجربة اللبنانيين في العيش المشترك.