ليس ملف ترسيم الحدود البحرية جنوباً ملفاً خارجياً بين لبنان وإسرائيل وأميركا والأمم المتحدة وحسب، بل هو ملفٌّ لبناني داخلّي أيضاً، بمعنى أنّ كلّ مجرياته سواء لجهة أسلوب تعاطي أفرقاء الحكم مع الملف أو لجهة ردود الفعل اللبنانية على التعاطي الأميركي الإسرائيلي مع هذا الملف، يؤكّدان عمق الإختلالات اللبنانية إن كان لناحية استعداد افرقاء الحكم للتنازل عن حقوق لبنان مقابل مكاسب سياسيّة، أو لناحية عدم وجود معارضة سياسيّة شعبية قوّية تستطيع الضغط على السلطة ومنعها من التفريط بهذه الحقوق.
في الواقع إنّ كلام الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين عن أنّ على لبنان القبول بما يعرض عليه لأنّه لا يملك شيئاً هو كلام مسيء إلى الشعب اللبناني، لأنّ حقوق لبنان في النفط ليست حقوقاً للمسؤولين اللبنانية وإنمّا لهذا الشعب الذي نُهب وشرّد وجاع من جرّاء سياسات هؤلاء المسؤولين. وبالتالي فإنّ هوكشتاين بقوله إنّ على لبنان القبول بما يعرض عليه يستندُ إلى منطق موازين القوى لا إلى منطق القانون الدولي وقانون البحار اللذين يفترض أن يضمنان حقوق لبنان. لكن كلام هوكشتاين مرّ مرور الكرام على قوى السلطة والمعارضة ومعاً وفي مقدمتها حزب الله الذي وضع نفسه وراء الدولة اللبنانية ووضع إمكانياته القتالية بتصرفّها حفظاً لحقوق لبنان، وبالرغم من ذلك فهو إلتزم الصمت حيال تصريحات هوكشتاين.
صحيح أنّ حزب الله وضع معادلة جديدة في الجنوب مفادها أنّ إسرائيل لن تتمكن من استخراج الغاز في المناطق المتنازع عليها مع لبنان، أي أنّه سيقصف أي منصّة بترولية تقدم على العمل في مناطق يرى لبنان أنّ له حقّاً فيها. وهذه معادلة يأخذها الإسرائيلي والأميركي في الحسبان، لكن في الوقت نفسه فإنّ هذه المعادلة لا تبدو متينة بما فيه الكفاية، لسبب بسيط وهو أنّ ملّف النفط في بحر الجنوب خاضع لحسبات إقليمية دولية أكبر من بحر الجنوب ومن لبنان.
أيّ أنّ هذا الملّف يتقاطع عنده كلّ اللاعبين الإقليميين والدوليين من أميركا وإسرائيل إلى إيران وروسيا ومصر ودول الخليج العربي، وذلك بالنظر إلى أمرين: الأوّل هو أنّ ملف النفط والغاز يتصدّر الآن من حيث القيمة الإستراتيجية قائمة الملفات الإستراتيجية على مستوى العالم. حتّى أنّه ينافس في أهمّيته وخطورته الملفّ النووي الذي أعادت الحرب الروسية على أوكرانيا وضعه على الطاولة، لكن ذلك لم يحجب التأثيرات الهائلة لحرب الغاز التي يخوضها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضدّ أوروبا. وبالتالي فإنّه لا يمكن عزل ملّف الترسيم جنوباً عمّا يحصل على الساحة الدولية بالنسبة لملّف النفط والغاز. وفي هذا السياق تأتي الإتفاقية المصرية الإسرائيلية الأوروبية لتصدير الغاز إلى أوروبا تعويضاً عن نقص الإمدادات الروسية منه، وهو ما يحصل أساساً بدعم وتشجيع أميركيين لأنّ أميركا تعتبر أنّ تخلّي أوروبا عن الغاز الروسي بصورة نهائية يشكلّ مكسباً استراتيجياً لها، ولذلك فإنّ استخراج إسرائيل كميات إضافية من الغاز يصّب في هذا التوجّه الأميركي.
عليه فإنّ أولوية الوسيط الأميركي هي تسريع إمكانية إستخراج إسرائيل للغاز في المنطقة قيد الترسيم مع لبنان، وهو ما يفسّر جزءاً من كلامه باعتبار أنّ استعجاله موافقة لبنان على العروض المقدمّة له يؤّمن هذه الغاية الأميركية، وإن كان يؤمّن أيضاً مصلحة لبنانية لكنّها مصلحة لا تأتي في رأس أولويات واشنطن في هذا الملف، ولذلك لا يهمّ إن حصل لبنان على حقوقه كاملة، إنّما المهمّ أ ن تبدأ إسرائيل باستخراج الغاز لمدّ أوروبا به. واستطراداً فإنّ محاصرة واشنطن لموسكو ليست هدفاً نهائياً لها إذ أنّ هدفها النهائي هو محاصرة الصين، أي كبح جماح قوتّها الإقتصادية والسياسية الصاعدة. وهذا يحيلنا إلى تصرّف إيران حيال ما يحصل على مستوى النفط والغاز عالمياً بما في ذلك في المنطقة الحدودية الجنوبية.
في موضوع إيران يجب دائماً العودة إلى الملف النووي باعتباره الملف الأهمّ بالنسبة لطهران لأسباب إقتصادية وجيوسياسية معروفة. حتّى الآن لا تزال طهران مهتمّة بإجراء صفقة مع الأميركيين، لكن في الوقت نفسه فإنّ واشنطن لم تبدِ تخلّ عن استراتيجيتها الأساسية لعقد مثل هذه الصفقة. وهذا أمر يفسّر جلّ السياسات الأميركية والإيرانية في المنطقة. فمن ناحية تحاول إيران الإستفادة من إتفاقياتها الإستراتيجيتة مع موسكو والصين لزيادة حجم صادراتها النفطية. لكنّ الإميركيين يبدون تشدّداً أكبر حيال هذا الأمر وهو ما يخفض طموحات طهران بشأنه لأنّها تسعى لرفع العقوبات الأميركية عنها ولا تريد التورّط بعقوبات جديدة على خلفية التعاون مع روسيا. والجميع يذكر كيف تفاءل الإيرانيون بإمكان ان تتحوّل الحرب الروسية الأميركية فرصة لهم، باعتبار أنّ واشنطن ربما تبدي استعداداً أكبر لعقد صفقة مع طهران بغية الاستفادة من صادراتها النفطية لتحقيق استقرار في أسعار السوق، لكن موسكو كانت أوّل المعترضين.
إذاً ثمّة تقاطعات دولية وإقليمية كبيرة في ملف الترسيم البحري جنوباً بما يتجاوز الحسابات اللبنانية الضيقة، ولذلك يجب التطلّع دائماً إلى اتجاهات تحرّك هذه التقاطعات لمعرفة مستقبل هذا الملّف. فإيران إذا لمست تحسنّا في حظوظ الصفقة مع الأميركيين فهي مستعدّة للتنازل عن ورقة ترسيم الحدود بين ولبنان وإسرائيل. أيّ أنّها مستعدة لتسهيل مهمّة هوكشتاين، أمّا إذا وجدت أنّ حظوظ الإتفاق في تراجع فهي ستحتفظ بهذه الورقة في يدها، إذ تصيب بها عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية تضغط على الأوروبيين المستعجلين لتأمين كميّات إضافية من الغاز تعويضاً عن الغاز الروسي وخصوصاً قبل فصل الشتاء، ومن ناحية أخرى فهي تضغط على الأميركيين الذي ينخرطون بقوّة في الخطّة الأوروبية. وهذه هي العوامل الحاسمة في اتجاهات ملّف الترسيم البحري جنوباً!