في عالم القانون والإدارة يُستخدم تعبير "وفق الأصول" للدلالة على أنّ أمراً معيّناً قد تمّ بتّه بطريقة لا تحتمل الشك في حرفيتها وصدقيتها. ويمكن الاستعانة بهذا التعبير في عالم السياسة على مستوى الدولة للدلالة على أنّها أنجزت ملفاً بطريقة تحفظ مصالحها الوطنية، ببعديها: الخارجي المتصل بسياساتها الخارجية وعلاقتها واتفاقاتها مع سائر الدول، والداخلي - وهو الأهم -والمتصلّ باتخاذها قراراتها وفق آليات واضحة لا يمكن أن تثير انقسامات وطنية، خصوصاً في بلدان تعددية طائفياً وسياسياً مثل لبنان.
للأسف فإنّ هذا التعبير، وبالرغم من أهميته في السياق اللبناني، فهو لا ينطبق على الكيفية التي اعتمدت لبتّ اتفاق - الاطار للمفاوضات مع اسرائيل حول الترسيم البحري جنوباً. بل بالعكس تماماً فإنّ هذا الاتفاق لم يتمّ وفق الأصول الدستورية وبالتالي فهو تأسس على خلل دستوري سيعمقّ بدوره الاختلالات الوطنية الفادحة التي تمعن في القضاء على الدولة اللبنانية، وفي مقدمتها وجود سلاح غير شرعي بيد فئة من اللبنانيين، خلافاً للدستور وللقوانين المرعية، وفوق ذلك كلّه فإنّ هذه الفئة أي "حزب الله" تقاتل بسلاحها خارج الحدود، وفق مشروع إقليمي لا صلة للبنان به لا من قريب ولا من بعيد.
لقد وقع توقيع اتفاق - الإطار عند هذا التقاطع الديالكتيكي والكارثي في آن معاً، أي بين تحللّ الدولة اللبنانية سياسياً واقتصادياً ورهنها لمشروع إقليمي خارج كل مسارها التاريخي السياسي والاقتصادي والثقافي. بمعنى أنّ الطريقة التي تمّ من خلالها الوصول إلى الاتفاق، أي توكّل الرئيس نبيه برّي المفاوضة والموافقة عليه من دون تكليف دستوري، هي طريقة تعكس الأمرين المترابطين بشكل وثيق: تفكّك الدولة وسقوطها كمبدأ ومفهوم، والسيطرة عليها من جانب فئة حزبية تستخدم سلاحها لفرض موازين قوى تتيح لها هذه السيطرة.
والسؤال المطروح في هذا السياق: من يحدّد المصلحة اللبنانية؟ هل يمكن لمسؤول بعينه أيّا يكن مقدار وطنيته ونزاهته أن يقرر المصلحة الوطنية في شأن استراتيجي كترسيم الحدود من دون تكليف دستوري واضح؟ ما يعني بالدرجة الأولى أنّ هذا المسؤول لن يخضع للمحاسبة في حال لم يؤمّن المصلحة الوطنية خلال عملية التفاوض والتوقيع على الاتفاق.
هذا الخلل الدستوري والوطني الفادح يدلّ بدقّة إلى الحال التي بلغها لبنان كدولة وكوطن. وهو ما يدفع إلى السؤال الأساسي الذي لا تسقط راهنيته وأهميتة لحظة: لمن القرار في لبنان؟ الأكيد أنه لا يمكن الحديث بعد الآن عن أنّ قرار الدولة اللبنانية هو ملكها تنتجه الآليات الدستورية والديموقراطية التي تجعل قراراتها الاستراتيجية والعادية تحظى بالشرعية الدستورية والشعبية، وتحفظ شروط المحاسبة القانونية والديموقراطية.
لم يعد في الإمكان الآن الحديث عن معايير كهذه في لبنان، إذ بات لبنان في دائرة البلدان التي تؤخذ قرارات دولتها من خارجها، أي من خارج المألوف الدستوري ووفق موازين القوى المحلية المرتبطة جدلياً بموازين القوى الإقليمية والدولية المتحركة باستمرار.
وهذه حالة لم يبلغها لبنان صدفة، إنمّا بفعل الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة التي تقوم على القبض على الدول الوطنية وتفكيكها بغية الاستحواذ على قرارها وتطويعه لخدمة المشروع الإقليمي والدولي لطهران.
بعبارات أخرى إنّها استراتيجية إحلال الميليشيا محلّ الدولة، فتصبح صاحبة القرار الإستراتيجي وفقاً للمصلحة الايرانية لا المصلحة الوطنية. تماماً كما حصل مع توقيع اتفاق الإطار للترسيم البحري والذي تمّ في توقيت إقليمي ودولي بالغ الدقة بالنسبة لإيران، لاسيّما عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهو ما يعزّز الاعتقاد بأنّ لبنان بات رهينة الأولويات الإيرانية، خصوصاً بعد إفشال الثنائي "حزب الله" – "أمل" المبادرة الفرنسية لتشكيل الحكومة التي تمثّل أولوية لبنانية قصوى، وتسهيل اتفاق الإطار مع الأميركيين والإسرائيليين. ما يعني عملياً أنّ إيران أخذت من "صديقتها" فرنسا وأعطت عدوتها أميركا، وكلّ ذلك بعيداً من تراتبية الأولويات اللبنانية.
لذلك كلّه فإنّ المعركة السياسية الأساسية والملحّة اليوم هي في استراجع القرار الوطني للدولة اللبنانية بقوّة الدستور، وهذا أمر يتطلب قيام وسط سياسي لبناني وطني يتمسكّ باتفاق الطائف والدستور كمرجعيتين وبرنامجي عمل وطنيين في وقت يحاول المنطق الميليشياوي السائد فرض أعراف من خارج الدستور والاستحواذ على قرار الدولة، على قاعدة موازين القوى المتأرجحة التي تضرب مبدأ التوازن الوطني الحيوي جدّا بالنسبة إلى لبنان، والذي من دونه تسقط الدولة والمجتمع في الخراب والفوضى إن لم يكن الحرب!