في التقاليد اللبنانية (العشائرية)، لا يُفَكَّر بالخلف قبل دفن السلف. لكنّ مهلة الخجل، أي وقت الحداد، حسب تيودور هانف، لم تُحترَم بعد اغتيال الرئيس رينيه معوّض في 24 تشرين الثاني 1989. فبعد مرور يومين على اغتيال سابقه الرئيس رينيه معوّض، انتُخب الياس الهراوي رئيساً عاشراً للجمهورية اللبنانية منذ استقلالها. جرى الانتخاب في فندق "بارك أوتيل" في شتورا بالبقاع، حيث ترابِط قوات الأسد السورية. في الدورة الثانية فاز الهراوي بأصوات 47 نائباً من أصل 53، فيما اقترع 5 نواب بأوراق بيضاء. واللافت أنّ إذاعة دمشق أعلنت نتيجة انتخاب الرئيس قبل حصول الاقتراع. هكذا كانت طريقة الانتخاب، من حيث وقتها ومكانها وشكلها وإعلان نتائجها، كافية لإيضاح صورة لبنان ما بعد الحرب وما بعد الطائف في خضمّ الوصاية السورية.
الرعب من الكرسي
قبل انتخاب الهراوي كان النائب المعتدل بيار حلو مرشّحاً قويّاً. حاول بعض المسؤولين اللبنانيين إقناع الأمنيّين السوريين به، لكنّ الأمور سرعان ما تبدّلت. قال الوزير السابق ألبير منصور في كتابه "الانقلاب على الطائف": "اقتنع بيار حلو، وأبلغنا الرئيس الحسيني بما حصل، فقرّر التوجّه إلى دمشق لبحث الأمر مع المسؤولين السوريين والتشاور في الخطوات اللاحقة (فالإخوان السوريون شركاء في اتفاق الطائف ومعنيّون بتنفيذه ومتعهّدون مساعدة الشرعية اللبنانية على استعادة الدولة). وكان قد طلب منّي ترتيب انتقال النواب إلى بعلبك، وتواعدنا على اللقاء في فندق بلميرا صباح اليوم التالي في 23 تشرين الثاني 1989".
وفيما توقّع مراقبون ومتابعون أن يكون النائب بيار حلو الرئيس الجديد للجمهورية، فوجئ الجميع برفضه منصب رئاسة الجمهورية. وعزا البعض أسباب الرفض إلى تمنّي أسرته عليه ذلك، بعدما روّعهم مصير الرئيس رينيه معوّض. قال منصور: "عند فجر 23 تشرين الثاني، فيما نستعدّ للذهاب إلى بعلبك، دخل عليّ الأستاذ بيار حلو ليقول لي: أنا ما بدّي. قرّرت ألا أترشّح. نزل الخبر عليّ كالصاعقة. حاولت إقناعه، فأصرّ على الرفض. وتبيّن لي أنّه أجرى اتصالات بعائلته وبعض الأصدقاء، فحسم في نهايتها أمره بعدم الترشّح".
كان الرعب من الكرسي، الذي يحلم به كلّ ماروني، قد تفشّى على وقع مشاهد الاغتيال بدءاً من الرئيس بشير الجميّل إلى رينيه معوّض. لم يكن الهراوي ببعيد عن توجّس بيار حلو، فقال في فندق بارك أوتيل في شتورا قبيل انتخابه: "قرّرت أن أكون شهيداً وأترشّح". كانت العبارة دالّة ومعبّرة عن تخوّف وقلق حقيقيَّين. والهراوي هو القائل أمام المسؤولين السوريين قبل أن يصبح رئيساً: "ما تطلبونه من غيري، أستطيع أنا أن أقدّمه".
في كتابه "عودة الجمهورية من الدويلات إلى الدولة"، روى الهراوي أنّ رئيس مجلس النواب حسين الحسيني توجّه إلى دمشق فوراً بعد اغتيال معوّض، وتمّ البحث في عدد من الأسماء المرشّحة أن تحلّ محلّه، وأنّه عندما التقى الرئيس السوري حافظ الأسد للبحث معه في هذا الموضوع، قال له الأسد: "اذهب واجمع النواب وانتخبوا إلياس الهراوي". وهكذا كان الهراوي الرئيس اللبناني العاشر بين مطرقة المطالب السورية الأسديّة، وسندان الطائفة المارونية.
الهراوي ومسيحيّو الأطراف
قال تيودور هانف إنّه لا شكّ في أنّ الهراوي نفسه كان واقعياً، "فهو رجل سوريا من حيث اقتناعه ومصلحته". وهو من مُلّاك الأراضي في البقاع. درس المرحلة الابتدائية في المدرسة الشرقية، والتكميلية والثانوية في مدرسة الحكمة في زحلة. تابع دراسته في معهد الحكمة، فدرس التجارة سنة 1947. انتسب إلى جامعة القديس يوسف - فرع الحقوق، لكنّه لم يتابع دراسته فيها. انتُخب سنة 1972 نائباً في البرلمان عن قضاء زحلة وظلّ نائباً بحكم قوانين التمديد للمجلس النيابي حتى انتخابه رئيساً للجمهورية. لم يكن الهراوي أقلّ مارونية من الجميّل أو معوّض، لكنّ كونه مارونيّاً من البقاع الذي تسيطر عليه سوريا منذ عام 1976، لا يجعل له أيّ مصلحة لانتهاج سياسة لا تخدم مسيحيّي الأطراف. فمن المغامرة التي قامت بها قوّات بشير الجميّل اللبنانية عام 1980 و1981 في زحلة، استنتج وأدرك كم كان غالياً ثمن التحدّي.
فور انتهاء جلسات المجلس النيابي استدعى الرئيس الهراوي الرئيس سليم الحص وجدّد تكليفه رئاسة الحكومة، وبدأ معه الرئيس حسين الحسيني مشاورات تأليف الحكومة الجديدة. وفي اليوم التالي، أي 25 تشرين الثاني 1989، صدرت مراسيم تأليف الحكومة التي تشكّلت من 14 وزيراً، وكان يُفترض أن تضمّ جميع الأطراف الموافقين على اتفاق الطائف. لكنّ الحكومة شُكّلت بلا "القوات اللبنانية" بسبب تداخل مواقعها مع مواقع العماد ميشال عون، خشية صدام مسلّح معه.
إنهاء تمرّد عون
فهم الهراوي ما يريده الأسد منذ البدايات، على الرغم من قوله إنّه لم يخضع لامتحان الرئاسة عند عبد الحليم أو غيره. وقال: "لن أسمح باستمرار التمرّد"، وأراد تعيين الجنرال ميشال عون قائداً جديداً للجيش اللبناني، فردّ عون أنّه لا يعترف بالحكومة ويعتبرها غير شرعية، لكونها انبثقت من مجلس نواب غير شرعي. ردّ الهراوي في كلام نُسب إليه: في لبنان شرعية دستورية واحدة على رأسها رئيس جمهورية وحكومة واحدة ومجلس نواب ومؤسّسات تابعة لها. وقال إنّ العماد عون يضع اللبنانيين أمام خيار مستحيل ومدمّر يقودهم فيه إلى الملجأ.
في أوّل جلسة عمل له، أصدر الهراوي مرسوماً يحمل الرقم 3 أعفى بموجبه الجنرال ميشال عون، قائد الجيش، من مهمّات وظيفته وعيّن العميد إميل لحّود قائداً للجيش بعد ترقيته إلى رتبة عماد. وفي ليل 5-6 كانون الثاني 1990 انتقل الرئيس العاشر للجمهورية اللبنانية إلى المقرّ الرئاسي المؤقّت في الرملة البيضاء ببيروت الغربية، الذي كان قدّمه له الرئيس الراحل رفيق الحريري. وقال الهراوي: "كان عليّ أن أختار أحد أمرين: إمّا التخلّي عن الرئاسة، وإمّا إنهاء تمرّد عون". كُثُر قالوا إنّ الهراوي لن يستمرّ في الرئاسة أسابيع. حتى أقرب المقرّبين منه اعتبروا أنّه يقود مغامرة مستحيلة. فهو يجلس على جبل من الأزمات والحروب، وأتى إلى الرئاسة من أرضيّة ضعيفة.
كان هدف الهراوي على ما روى: تشكيل حكومة وطنية توفّر الغطاء اللازم للتخلّص من عون إذا لم تنجح المساعي في حمله على الانضمام إلى الشرعية سلميّاً. وبدا أنّ عون لم يترك خياراً إلا للعملية العسكرية. وتحدّث الرئيس الراحل عن ساعة الصفر: "أبلغت العماد إميل لحود أنّ الهجوم بات وشيكاً من دون أن أحدّد موعده. وطلبت أن يكون الجيش على استعداد في أيّ لحظة. اثنان كانا على علم بالتفاصيل، أنا والرئيس الأسد الذي طلب من نائب رئيس الأركان السوري اللواء علي أصلان التوجّه إلى مدينة عاليه لقيادة العملية. وعشيّة إطاحة التمرّد عرض عليّ السفير الفرنسي حلّين كلاهما مرفوض: إجراء انتخابات رئاسية جديدة، أو تأليف حكومة يتسلّم فيها عون حقيبة الدفاع ويبقى محتفظاً بقيادة الجيش. بعثت رسولاً إلى بعبدا في محاولة أخيرة لتلافي سفك الدماء، فكان جواب عون أنّه يرفض أيّ مساومة. فجر السبت في 13 تشرين الأول، أغارت طائرة سورية على منطقة بعبدا ومحيطها، وحصل الهجوم على جيش عون المتمرّد".
الروح القدس
تسلّم الهراوي الرئاسة، أو بمعنى آخر تسلّم "ويلات وطن"، كما يعنوِن روبرت فيسك أحد كتبه. كانت السيادة ما تزال موزّعة على قوى وأحزاب وجيوش وأمراء حرب وزواريب. كلّ المؤسّسات تُختصر بأشخاص ومكاتب صغيرة ومتنقّلة. وحده مصرف لبنان كان يعمل خلف سواتر كثيفة من أكياس الرمل. تسلّم الهراوي مهامّه الدستورية، فأُعيد نسبيّاً توحيد السلطة والمؤسّسات، وإنهاء مظاهر التمرّد التي كانت قائمة، وإزالة الحواجز بين المناطق، وحلّ التنظيمات المسلّحة وسائر الميليشيات (باستثناء مقاومة حزب الله). وأبرز خطوات الوصاية السورية تمثّلت في أنّه في 22 أيار 1991، وقّع الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس الهراوي على معاهدة "الأخوّة والتعاون والتنسيق بين الجمهورية العربية السورية والجمهورية اللبنانية". وهي معاهدة هيمنة سوريّة بامتياز. في عام 1992 حصلت انتخابات نيابية شديدة السوء قاطعها معظم المسيحيين، وأحدثت خللاً في التوازن السياسي.
في عهد الهراوي اعتُقل رئيس اللجنة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع في عام 1994، وحُكم عليه بالسجن المؤبّد، فلم يخرج من السجن إلا في عام 2005 بموجب عفو أصدره مجلس النواب اللبناني الجديد، إذ صارت غالبية النواب مناهضة لسورية، بعد اغتيال رفيق الحريري وانتفاضة الأرز في 14 آذار.
في نهاية ولايته الممدّدة 3 سنوات تمّ تعديل الدستور وانتُخب قائد الجيش إميل لحود رئيساً للجمهورية اللبنانية. صباح 24 تشرين الأول 1998 دخل الرئيس إميل لحّود قصر بعبدا وغادره أبو جورج الزحلاوي (لقب الهراوي المحلّي). وبعد قرابة سنة من انتخاب إميل لحّود خلفاً له، سألت إحدى المذيعات الرئيس الياس الهراوي في ظلّ فقدان الودّ بينه وبين لحّود:
- من اختار الرئيس لحّود لرئاسة الجمهورية؟
أطرق الهراوي لحظة، ثمّ أجاب بنبرته الزحلاوية:
- مين اختار الرئيس لحّود؟ الروح القدس.
واستطردت المذيعة:
- طيّب ... وأنت من مدّد لك ثلاث سنوات؟
- مين مدّد لي؟! الروح القدس أوحى بذلك إلى النواب فصوّتوا للتمديد.
كتب هذا الكلام غسان تويني في تقديمه لـ"مذكّرات" الهراوي، وفيها روايته عن "عودة الجمهورية من الدويلات إلى الدولة".
المصادر:
- تيودور هانف، تعايش في زمن الحرب، دار الحداثة.
- الياس الهراوي، "عودة الجمهورية من الدويلات إلى الدولة"، دار النهار.
- ألبير منصور، "الانقلاب على الطائف"، دار الجديد.
*نُشر على صفحة أساس-ميديا