وقَفَ مُدّعي عام التمييز القاضي غسّان عويدات يومَ الجُمعة الماضي ينظرُ من أحدِ "شبابيك" العدليّة إلى الشّبّان المُعتصمين أمامها رافعين صوره، بعضهم يشتمه وآخرون يُطالبون باستقالته. فقال لأحد الواقفين إلى جانبه: "أن تُرمى صورتي على الطّريق، خيرٌ من أن تُعلّق صور الشّباب على الجدران. ما فعلته منع الدّماء أن تسقطَ في الشّارع. لكنّ الأهمّ أن لا يكونَ هناك إصرار عند البعضِ أن تسيلَ هذه الدّماء".
مثل القاضي عويدات في الأيّام الأخيرة كمثل المؤمن القابض على الجمر. تحمّل كلّ شيء من نعته عبر مواقع التواصل بـ"أمير المؤمنين"، وصولاً إلى تشبيهه بـ"عدنان عضّوم المنظومة". لكنّه ما بين الوصفيْن كان القاضي المُستندِ على قاعدة دستوريّة لا ريبَ فيها أنّ الحفاظ على الاستقرار العامّ يسمو فوق كلّ القواعد والقوانين.
لن تُفهَم الإجراءات والخطوات التي اتخذها عويدات بعد ما قامَ به المُحقّق العدليّ في كارثة مرفأ بيروت طارق البيطار إلّا بقراءتها بهدوء وتجرّدٍ، بعيداً عن العواطف والشّعبويّات.
بطل رواية "المحاكمة"
اختار غسّان عويدات أن يتحوّل لبطل رواية "المحاكمة" لفرانز كافكا، التي يُعتقل فيها البطل وهو لا يعرف السبب وراء اعتقاله. تعرّض عويدات لمُحاكمات إعلاميّة و"شعبويّة"، وأصرّ البعض على شيطنة صورته وقراره.
هذا في الشّكل. أمّا في المضمون، يقول واقع الحال إنّ مُدّعي عام التمييز جنّب البلاد ما هو أعظَم. لم ينطلِق عويدات في قراره من عدم. كانت القاعدة التي استندَ إليها حفظ السّلم الأهليّ والاستقرار بعد حركة البيطار.
إنّ يدَ المُحقّق العدليّ مكفوفة بحكم طلبات الرّد المُقدّمة ضدّه في محكمة التمييز، وإنّ اتخاذ أيّ قرارٍ رغمَ "كفّ يده" لا يعني إلّا ضربةً للاستقرار، وهذا لا يحتاج إلى تفسيرٍ. بدوره كانَ عويدات يوقِف هذه الخطوة، ويمنع انزلاقها نحو بحر الدّماء. لكنّ السّؤال الأهمّ هُنا: هل من حاول إراقة الدّماء في الشّوارع لا يزَال مُصرّاً؟ الإجابة على هذا السّؤال قطعاً ليسَت في الطّابق الرّابع من قصر العدل حيث مكتب عويدات.
تكمُن الشّعبويّة الفاضحة في قرار طارق البيطار في الإدّعاء على مُدّعي عام التمييز، والذي إلى جانب رئيسيْ مجلس القضاء الأعلى والتّفتيش القضائيّ لا يُدّعى عليهم إلّا من مجلس الوزراء حصراً. وهذا لا ينفصل عن كلّ الخطوات التي استهدَفت رئاسة مجلس الوزراء منذ استقالة حكومة الرّئيس سعد الحريري في 2019، والحرب الضّروس التي شُنّت على قرار الحكومة أيّام حسّان دياب في 2020، وما تتعرّض له رئاسة الوزراء اليوم.
مشهدٌ يخفي خلفه إمعاناً في ضربِ التوازنات، وهدمِ الأسس التي يقوم عليها اتفاق الطّائف، والتي لا يُمكن فصلها جميعاً عن دعوات التقسيم والانعزال التي باتت اليوم عنواناً لكثير من القوى التي تغتنم الفرصة تلوَ الأخرى لفرضٍ عقدٍ اجتماعيّ جديد.
هذا ما يحصل بالتمام والكمال مع المدعي العام التمييزي الذي يٌحاكم على شاشات التلفزة بإرهاصات عبثية تُبدد "البحث عن الحقيقة" وتطغى عليها الفوضى. يُراد شيطنته، فيما جرى انتقاء مسار التحقيق الذي أبعد وأستبعد ما هو ممكن من احتمالات، وأوّلها أن تكون إسرائيل هي الفاعل.
وحدهما "حزب الله" والقاضي طارق البيطار فعلا ذلك. الأول برر الكلام عن الموضوع بأنه "مكيدة" لتوريطه. الثاني لا يُعرف عنه غير ما يتردد عن صداقته مع السفيرة الاميركية واستضافتها له في مقر السفارة بعوكر.
من يفعل ذلك يريدنا أن نوقف البحث عن اثنين: الأول من أدخل نيترات الأمونيوم، والآخر الذي استهدفها.
تم تغييب الجدية عن التحقيق والتلهي بالمسؤوليات التقصيرية. الجميع أهمل كل التحليلات العلمية عن تحليل الألوان التي انبعثت من الانفجار. الإهمال بلغ أيضاَ ما أعلنه الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب وكشف فيه أن جنرالاته أخبروه بأن الانفجار حصل نتيجة اعتداء "خارجي". حتى التقارير الإسرائيلية جرى رذلها.
الكل تعاون على طمر هذه الوقائع وإغراقها في مستنقع الطوائف. ومثل هكذا تحقيق صار خصباً بالشائعات ويروم تصفية حسابات لا تمت إلى الواقع بصلة.
بعدَ البيان الشّهير الذي أصدره عويدات وتضمّن آياتٍ من القُرآن الكريم والإنجيل، علّق أحدهم على مواقع التواصل الاجتماعي بالقول: " رسالة من أمير المؤمنين إلى ملكِ الرّوم". بالطّبع ليسَ غسّان عويدات أميراً للمؤمنين، لكنّه في الوقت عينه كان أكثر من مدّعي عام التمييز.