يصلُ إلى بيروت الأسبوع المُقبل الوسيط الأميركيّ آموس هوكستين حاملاً النسخة النّهائيّة من اتفاق ترسيم الحدود مُذيّلاً بالتوقيع الأميركيّ عليه. أو قُل: حاملاً نصره الأميركي بين يديه. حاملاً نصراً أميركيّاً عجزَ عن تحقيقه جميع الوسطاء الذين سبقوه، ومنهياً أسطورة "التوجّه شرقاً التي حاول محور حزب الله الترويج لها وانتهى إلى اللعب تحت عباءة هوكستين الأميركو – يهودية.
الترسيم بين لبنان وإسرائيل هو الانجاز الأوّل على صعيد السّياسة الخارجيّة لإدارة الرّئيس جو بايدن منذ استلامها السّلطة مطلع العام 2021، بعد إخفاقها في الملفّ النّوويّ الإيرانيّ، ووصمة العار التي طبعتها على السياسة الخارجية لحاكمة العالم، مشاهدُ الانسحاب الكارثيّ من أفغانستان، وصور الحلفاء المتروكين، التي هزّت الثقة بواشنطن حول العالم. ومؤخّراً أخفق بايدن وإدارته في إدارة أزمة الطّاقة، وفي العلاقة مع دول مجلس التعاون الخليجيّ وأوبك Plus ومع المملكة العربية السعودية.
يصلُ هوكستين بابتسامته التي باتت علامةً فارقةً له، وربّما تكون الابتسامة هذه المرّة أكثر حرارةً من الابتسامات السّابقة. مثلما ابتسم حين قال للقادة اللبنانيية: "حصلتم على ما هو أكثر بكثير مما لديكم الآن، وفي حالة لبنان، هو لا شيء". فقد انتزعَ هوكستين اعترافاً من عهدِ حزب الله بسيادة إسرائيل على الجانب الآخر من الخطّ الحدوديّ، حيثُ وُلِدَ آموس هوكستين سنة 1973 لأبويْن إسرائيلييْن من أصولٍ أميركيّة.
النشأة.. والهوى الإسرائيلي
ترعرع هوكستين في فلسطين المُحتلّة، وخدَم في صفوف الجيش الإسرائيليّ لـ3 سنوات بين عاميْ 1992 و1995. لا يجدُ الباحثُ عن سيرة هوكستين أيّ تفاصيلٍ أخرى تتعلّق بحياته المُبكرة في إسرائيل. قد يكون سبب التكتّم هذا محاولةً لإخفاء حقيقة جنسيّة هوكستين الإسرائيليّة، لأسبابٍ إداريّة تتعلّق بمصير الجنسيّة الثّانيّة في حال تبوّأ حامل الجنسيّة الأميركيّة منصباً رسميّاً رفيعاً. وهنا لا يُعرَف إن كانَ هوكستين تخلّى عن جنسيّته الإسرائيليّة أم لا.
يعتبر الدبلوماسي الأميركي السابق مايكل سبرينغمان، الذي تبوّأ منصب القنصل الأميركيّ في مدينة جدّة السّعوديّة في عهد الرّئيسْين رونالد ريغن وجورج بوش الأب، في مقالة نشرها على موقعه أنّه يحتمِل أن لا يكون آموس تخلّى عن جنسيّته الإسرائيليّة مثل وكيلة وزارة الخزانة الأميركية السابقة سيغال بيرل ماندلكر.
أنهى آموس خدمته العسكريّة، وعادَ إلى مسقط رأس أبويْه، الولايات المُتحدة، وتحديداً إلى العاصمة واشنطن. انخرطَ سريعاً بالعمل السّياسيّ، فهو مُتابعٌ لأدقّ تفاصيل السّياسة الأميركيّة منذ نشأته، ودخل في صفوف الحزب الدّيمقراطيّ وتلقّى تدريباً في "الكابيتول هيل"ضمن طاقم موظفي لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، وعَمِلَ مُستشاراً لعضويْ الكونغرس السيناتوريْن الدّيمقراطييْن البارزيْن كريس دود ومارك وارنر.
"الإنجاز الكوري الشمالي"
في عهد الرّئيس بيل كلينتون وتحديداً في 1997، أُرسِلَ هوكستين إلى واحدة من أكثر الدّول عداءً للولايات المُتحدة، كوريا الشمالية في مهمّةٍ عنوانها "رفع تقارير عن الوضع الاقتصادي والعسكري في البلاد".
بعد انتهاء "مهمّته" في كوريا الشّماليّة، عُيِّننَ كبيراً للمستشارين السّياسيين في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، وأشرف على تشريعات تتعلّق بتفويض عمل بنك الصّادرات والواردات الأميركيّ (EX – IM Bank) ومنظّمة OPEC ووكالة التنمية والتجارة الأميركيّة USTDA، فضلاً عن صياغة تشريعات تضبط التصدير والمنظمات والأنظمة ذات الصلة بالتجارة.
في عهد الرّئيس باراك أوباما في 2008، سافر هوكستين إلى العراق وشارك في المناقشات الدبلوماسية الأميركيّة التي ربطَت رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية مقابل توطين آلاف اللاجئين الفلسطينيين في وسط العراق. جادل بأنه ينبغي الإبقاء على العقوبات الاقتصاديّة في حال لم تقبل سُلطات الرّافديْن بتوطين الفلسطينيين.
الوظيفة "الإسرائيلية"
انتقل في 2009 إلى القطاع الخاص بصفته نائب المدير التنفيذي للعملياّت الدولية في شركة كاسيدي وشركائها المعنيّين بتقديم المشورات الإداريّة للحكومة الأميركيّة، خصوصاً في قطاع الطّاقة. وكان مستشارًا وأحد أهمّ أعضاء اللّوبي الإسرائيلي في شركات النفط والغاز الأميركيّة والدولية، وكذلك الشركات التي تركز على الطاقة المتجددة. وبصفتة مُستشاراً، ساعد الشركات في تقويم الأسواق الجديدة المحتملة وتطوير مصادر بديلة للطّاقة، خصوصاً في البحر المُتوسّط، حيث إسرائيل.
في 2011، بدأ العمل ضمن طاقم وزارة الخارجية في مكتب مصادر الطاقة الذي استحدثته إدارة أوباما. عُيّنَ نائباً للمبعوث الخاص كارلوس باسكوال. تركّز عمل هوكستين في منصبه الجديد على مساعدة أوكرانيا في إيجاد إمدادات جديدة للغاز الطبيعي مع بدء الأزمة مع روسيا عقب ضمّها شبه جزيرة القرم. كما قاد الجهود الدّبلوماسيّة المُرتبطة بملفّ الطّاقة بإشرافه على مكتب الشّرق الأوسط وآسيا وأوروبا وأفريقيا.
في تلكَ الفترة، تعمّقت علاقته بالرّئيس الحاليّ ونائب الرّئيس حينذاك جو بايدن. يجمع هوكستين وبايدن مسألتيْن جوهريّتيْن:
الأولى: الدّعم اللامتناهي لإسرائيل. فبايدن لا يقلّ صهيونيّةً عن هوكستين، والشّاهد على ذلك تأييد بايدن الشّديد لـ"تشريع سفارة القدس" الذي ينقل السّفارة الأميركيّة في إسرائيل إلى القدس، ويعترف بالمدينة عاصمةً لإسرائيل. يُضاف إلى ذلك اعتراف بايدن بنفسه يوم قال في زيارته لإسرائيل في تمّوز الماضي: "إذا كنت يهوديّاً فسأكون صهيونيّاً، والدي أشار إلى أنه لا يشترط بي أن أكون يهوديا لأكون صهيونيّاً، وهذا أنا".
الثانية:اجتمع الطّرفان على ضرورة التضييق على روسيا في قطاع الطّاقة وضرورة إيجاد مصادر جديدة للطّاقة لأوروبا والغرب عوضاً عن موسكو.
امتدّت هذه العلاقة حتّى وصلَ بايدن إلى البيت الأبيض رئيساً للولايات المُتحدة مطلع 2021. اختاره الرّئيس الجديد مبعوثاً خاصّاً لشؤون الطّاقة في أدقّ لحظةٍ تعيشها الولايات المُتحدة في إطار حرب الطّاقة مع روسيا.
من ضمن المهام التي أوكِلَت لهوكستين كان ملف ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل، إضافةً إلى التنسيق مع دول أوبك وخصوصاً دول مجلس التعاون الخليجيّ.
استطاع هوكستين بعد جولاتٍ مكّوكيّة بين بيروت وواشنطن وتل أبيب والدّوحة وباريس أن يصلَ إلى الاتفاق الذي سيأتي به إلى لبنان بعد أيّام...
"الوطنجية" بين بيروت – تل أبيب
المفارقة التي تستدعي الوقوف مطوّلاً أمامها هي أنّه في بيروت وتل أبيب يرفع مسؤولون في الحكم الصوت بـ"معاداة" الولايات المتحدة. في الأولى "حزب الله"، وفي الثانية "اليمين الليكودي" بقيادة بنيامين نتنياهو. كلاهما يشتبه بالسياسة الأميركية باعتبارها لا تريد غير مصالحها. وهذا صحيح لا طعن فيه، ذلك أنّ الدول مصالح وإنجازات.
الفارق بين المكانين، بيروت وتل أبيب، أنّ السياسيّين المتمرّنين ومعهم رهط المتقاعدين الممانعين في بيروت، يرون واشنطن عدوّاً على الرغم من أنّها ساعدتهم على "الزعم" أنّ أيّام يُسرٍ تنتظرهم.
أما في إسرائيل، فالذين يصرخون ضدّ واشنطن هم ممّن يريدون نصراً انتخابياً، لكنّهم يعرفون أنّ فرصتهم الوحيدة كـ"دولة" للبقاء تتلخّص في تسليمهم بمصالح واشنطن الاستراتيجية وفي انتظامهم في حضن أميركا بمواجهة إيران وحلفائها.
ما يعرفه "المتحكّمون" عندنا ويريدون أن نتجاهله هو أنّ الفترة التي ستعقب الطواعية الإسرائيلية ستضعنا مُجدّداً ومرّة أخرى في مواجهة الضغوط الأميركية والدولية على حدٍّ سواء. ويجدر بنا ألّا نستهين بهذه الضغوط متى حصلت. الغضب الأميركي منذ عقود يترافق عادةً مع سدّ المنافذ الدولية: من أوروبا إلى روسيا. حتّى "سوريا الأسد الأب والابن" لم يكن عندها رفضٌ لأميركا، بل "رجاء" التوسّط كحَكَم لِما لها من دور حاسم في المنطقة.
بهذا المعنى، فإنّ "الوطنجية" التي تُستعرَض في بئر العبد وحارة حريك ليست شيئاً آخر غير التمهيد لاستثمارات حربيّة يدحضها الربح الأميركي الصافي الذي يظهر في ما يلي:
ـ يمثّل الاتفاق مع لبنان "اختراقاً تطبيعياً بعد اتّفاقَيْ "وادي عربة" مع الأردن، و"أوسلو" مع منظمة التحرير الفلسطينية.
ـ أخذت واشنطن من الحزب انصياعاً ولو متأخّراً كانت بدأت بطلبه منذ العام 2009 يوم انطلقت المفاوضات حول ما عُرِف بخطّ "هوف".
ـ جاء بايدن إلى المملكة العربية السعودية طالباً أمرين لم يحصل على أيٍّ منهما: زيادة الإنتاج النفطي والتطبيع مع إسرائيل. ما طُلب من المملكة فعله لبنان وبقيت الرياض على رفضها فلا يزايدنّ أحدٌ عليها ولتتوقّف "هواية" مهاجمتها، وهي هواية خاصّة بالأمين العام للحزب السيّد حسن نصر الله.
ـ اعتراف لبنانيّ بأنّ العدوّ الإسرائيلي هو مَن يقع على حدودنا الجنوبية. والتفاوض اعتراف، والتوقيع اعتراف، بعدما قيل لنا إنّ "زمن الهزائم قد ولّى".
ـ ترسيم الحدود البحرية رسم إطاراً جديداً لمنطقة الشرق الأوسط، إذ ضمنت واشنطن تصدير السلع الاستراتيجية (نفطية وغازية) إلى حليفتها أوروبا. وبالتالي فإنّ ما حصل ليس عابراً. فالتوقيع اللبناني هو إجماع حول إسرائيل وتغيير عميق في مفهوم العداء لها، لم يحصل في تاريخ لبنان السياسي.
- أُعيد الاعتبار لاتفاق 17 أيار الذي أسقطته "انتفاضة" لم تقبل بالاعتراف وقتها بإسرائيل. وقواها السياسية هي نفسها التي قبلت اليوم بالترسيم. علماً أنّ ما كان للبنان من حقوق ترسيم هو أفضل بكثير ممّا هو عليه الاتفاق الحالي.
- ربحت أميركا المعركة ضدّ روسيا، التي قدمت بجيشها إلى حوض البحر المتوسط، فكان الدعم البديل لأوروبا من النفط موقّعاً ممّا يُسمّى "محور الممانعة".
ـ تفوّقت أميركا على اللاءات الإيرانية، ولاءات حزب الله المتقدّمة عن طهران، وطوّعت الحزب وراء الدولة اللبنانية، أقلّه في المدى القريب جدّاً، لا أكثر. يُخطىء من ينسى كلام الأمين العام للحزب عن تجاوز "العمليات التذكيرية" والانتقال إلى عمليات تحريرية لاستعادة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. على ما يبدو فإنّ كلّ هذا بات من الماضي.
- نجحت واشنطن لسنوات عدّة مقبلة في إحياء السلام في المنطقة من دون إحراج أيّ طرف. الجميع في لبنان وقّع وقَبِل الترسيم وينتظر الثروات. الجميع لا يريد الحرب. إنّه السلام وليس الهدنة.
- ربحت الولايات المتحدة الأميركية وجودها السياسي في لبنان والمنطقة بصفر ضحايا، وها هي اليوم تؤكّد مشروع الشرق الأوسط الجديد المتعب، المسالِم مع إسرائيل، الذي كان يُفترض أنّه هُزم في العام 2006.
أغلب الظنّ أنّ الآتي أسوأ على اللبنانيين إن لم يعودوا إلى الشرعية العربية المتمثّلة بـ"مبادرة بيروت للسلام"، وإلى الشرعيّات الدولية وقراراتها، ومنها على وجه التحديد 1559 الذي قلب هذه البلاد رأساً على عقب.
في هذه الأثناء: ولّى زمن الصدح بالشعارات، وجاء "الزمن الأميركي" إلى لبنان. من لا يصدّق فليستمع إلى الشيخ الذي يمثّل منطق حزب الله، صادق النابلسي، على قناة "الجديد" قبل يومين، قائلاً إنّ "هناك واقعاً إسمه إسرائيل... ونحن الطرف الأضعف في المعادلة".
*نشر على صفحة أساس-ميديا