في الرابع من آب 2020، شهد لبنان "كارثته التشرنوبيلية". يصر الذين في السلطة على اعتبار تلك الكارثة حادثًا عابرًا، غير أن الحادث العابر هذا، هو في الحقيقة جريمة موصوفة ارتكبها أهل السلطة عندما سمحوا لهذه القنبلة بأن تستقر هانئة لست سنوات في مرفأ بيروت، فافتعلوا كارثة لستُ بحاجة الى وصف آثارها المدمّرة التي نعيش نتائجها كل يوم منذ وقوع ذلك الإنفجار الهائل.
يبدو أن انفجار هذا المستودع لم يكن نتيجة صراع ما أو بسبب عملٍ من أعمال العنف المتعمّد، كما يريد البعض أن يَقْتنعوا ويُقنعوا. إنه وبحسب رأينا نتيجة لعدم الكفاءة الصارخ، والفساد المستشري. علاوة على ذلك، هو نتيجة إحكام قبضة "حزب الله" على البلاد.
أسئلة كثيرة بقيت بلا أجوبة
كيف يمكن تخزين كميات من نيترات الأمونيوم هذه دون رقابة، وقد حذّر المدير العام للمرفأ والمدير العام لإدارة الجمارك مرارًا من الأخطار التي تمثلها المتفجرات، بل وقد طالبا معًا بنقلها، وخصوصًا أن العنابر التي تحتوي على مختلف أنواع المتفجرات تخضع لحماية الجيش دون غيره، وأن إدارة المرفأ ممنوعة من الوصول إليها؟
ولأي نوع من الإستعمالات استُقدم نيترات أمونيوم تفوق شدّة تركيزه ثلاثة أضعاف نيترات الأمونيوم الذي يستعمل في القطاع الزراعي؟
ولن أطرح أسئلة تتناول المرفأ الذي انطلقت منه شحنة النيترات هذه، ولا بلد المقصد الذي قيل إنه موزمبيق الذي أنكر علمه بالأمر، ولا مالك السفينة الذي اختفى أثره، ناهيك عن سبب توقف الشحنة في مرفأ بيروت التي صودرت دون أن يراجِع بها أحد أو يطالب بها.
في عام 1995، انفجرت أطنان من نيترات الأمونيوم في أوكلاهوما سيتي وأسفر ذلك الإنفجار عن مقتل 168 شخصاً. وفي تولوز انفجر 300 طن من المادة نفسها عام 2001، فقضى جرّاء الإنفجار 31 شخصًا. والواقع أن هذه الأرقام تثير العديد من الشكوك، تضاف إليها تلك الناتجة من الملاحظات الأولى للإختصاصيين الذين عاينوا إنفجار بيروت. فهل كان يوجد في لحظة الإنفجار 2750 طنا من نيترات الأمونيوم في العنبر رقم 12 أم أن يدا خفيّة امتدّت فسحبت من تلك الكميات على مرّ سنوات المصادرة!؟
غير أن هذه الأسئلة ستظل بلا إجابات طالما أن ميشال عون، الذي يدعى رئيسًا للجمهوريّة، يرفض أي تحقيق دولي، كما استبعد مرشده حسن نصر الله أي احتمال لتحقيق ذلك وإلا... تاركا للقارئ العزيز حسن التقدير.
إن ما أوردناه، يذكرنا بالأيام التي تلت اغتيال رفيق الحريري. فإميل لحود رئيس الجمهورية في تلك الأثناء، كما الحكومة التي كان يترأسها عمر كرامي رفضا أي تحقيق مستخدمين المبررات ذاتها: رفض التدخل في الشؤون الخاصة للبنان. وقد بذل وزير الداخلية سليمان فرنجية آنذاك مجهودًا كبيرًا لتنظيف مسرح الجريمة من الدلائل التي تخدم التحقيق. لكن اصرار المعارضة، مقرونًا بدعم دولي، نجح في تشكيل المحكمة الخاصة بلبنان التي سوف تصدر حكمها في 18 آب الجاري، وستتّهم اعضاء من "حزب الله" كما أنها ستشير إليهم باسمائهم. ربما كتب علينا الانتظار طويلاً، لكن الأمر يستحق عناء الإنتظار.
اليوم، نحن أمام السيناريو ذاته. فما هي تلك المعطيات التي بحوزة ميشال عون وحسن نصر الله لتبرّر رفض لجنة تحقيق دولية؟ إنها معطيات يحاولون إخفاءها عنا.
كثيرة هي تلك المعطيات. من يستطيع اليوم، وبعد كل الذي جرى، الوثوق بنظام العدالة اللبناني؟ نظام لم يتمكن بعد 30 عاما من محاكمة قتلة رينه معوض، أو الحكم على سوزان الحاج أو هدى سلوم، سواء بالجرم أو بالبراءة؟ من يستطيع أن يثق بهذا القضاء الذي لم يفصل في أي قضية فساد، وأن يبلّغ عن أي مجرم، في حين ندرك جميعاً أن الفساد هو السرطان الموازي لسرطان "حزب الله" وقد أصِبنا بهما معًا؟
لا أحد.
وإذا كان البعض قد اعتبر الهجوم على رفيق الحريري عملا سياسيا، وقد ألحق بهم أذى كبيرًا، فكارثة الرابع من آب 2020، ألحقت بهؤلاء أذى أكبر لأنها أدمت شعبا بكامله. فقد قُتِل أكثر من 160 شخصاً، وأصيب أكثر من خمسة آلاف آخرين، كما أن مئات آلاف المواطنين بلا مأوى، وأن تكاليف إعادة البناء تقدَّر بمليارات الدولارات في حين أن لبنان يرزح تحت ثقل أخطر أزمة اقتصادية تسبّب بها الاحتلال الإيراني الذي عزل البلاد عن العالم. المؤسف أن زعماء كمثل ميشال عون يجدون سبيلا للابتهاج وسط هذا الانفجار كونه سيكسر الحصار الذي فرض علينا. فيا مرحبًا بك في عالم الهراء.
بعد الانفجار بـ 48 ساعة وصل الرئيس ماكرون إلى بيروت وصافح بعض هؤلاء المجرمين. ثم أعلن في مؤتمر صحافي أنه وجّه إلى هؤلاء بعض الكلمات القاسية. بعد يومين، وفي يوم التعبير عن الغضب بالذات، ردّ النظام باستخدام العنف ضد المتظاهرين. إنه إشعار بالإستلام واضح، جلي ودقيق، ردّا على ما طلبه منهم إيمانويل ماكرون. فالجحيم مرصوفة بالنيات الحسنة، ويبدو أن الرئيس الفرنسي لم يدرك ذلك بعد.
بعد ستة أيام على هول الكارثة، قدّم حسن دياب استقالته بخطاب صفّى من خلاله حساباته مع نبيه بري. إلا أن "حزب الله" كان قد تخلّى عن دياب فرماه عظمة ينهشها المتظاهرون ليهدأ غضبهم. ومن ناحية أخرى حاول "حزب الله" إرضاء الرئيس الفرنسي بإيفاد ممثل الحزب "المصاب" بالعقوبات الأميركية، إذ أن الأولوية عند "حزب الله" الآن هي في حماية ميشال عون، وبالأخص حماية الأغلبية البرلمانية التي يتمتّع بها.
ماذا نفعل؟
من البديهي أن يحتل المواطنون الشوارع للمطالبة بحكومة جديدة من المستقلين و/أو التكنوقراط. غير أن المتظاهرين أنفسهم لا يجتمعون على تعريف واحد لتلك الكلمات (مستقلون، تكنوكراط). ولربما وصول دياب خلسة الى الحكم هو خير مثل على ما نقول .
لقد اقترح ماكرون تشكيل حكومة وحدة وطنية. إلا أن الشخص الوحيد الذي كان في وسعه أن يتولى رئاستها هو سعد الحريري الذي وضع الشروط التي لا يستطيع "حزب الله" ولا جبران باسيل القبول بها.
أما الحلّ الآخر فيتلخص في الدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة. ولكن، بموجب أي قانون؟ إن هذا البرلمان الذي كان قاسم سليماني يفخر به قبل وفاته معلنًا أن لديه فيه 74 نائباً، فإن 69 نائباً من هؤلاء جعلوا حسن دياب رئيساً للوزراء وهو الشخصية التي كانت مغمورة قبل 24 ساعة من تعيينه؟
فضلاً عن ذلك، مَن غير "حزب الله" يستطيع اليوم أن يموّل في خضمّ هذه الأزمة الاقتصادية حملة انتخابية؟ إنه الطرف الوحيد الذي يتلقى المال نقداً، لأن الحسابات المصرفية محظورة عليه؟
وهذا الحل لن يكون في صالح السياديين والإستقلاليين، وبالتالي لن يؤدي إلى أي تغيير.
ولأن هنالك استحالة في خلق متغيرات نرجوها، يبقى علينا التعلّق بدستورنا، واحترام الشرعيّة الإقليمية والدولية، فضلا عن تطبيق قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
ولكن، ومنذ الرابع من آب، بات من الضروري التحرك بسرعة أكبر. فإننا نعاني، كما قال ألبر كامو، من آلامً توفّرت لنا بأعجوبة، فواجبنا أن نغضب ونشكل معا العَصَب المشدود، لحظة الإنتفاضة فنسقط اللذين يهدّدان سيادتنا: "حزب الله" وميشال عون.
ولا بد من أن تبقى حركتنا سلمية. وبما أننا لا نستطيع مهاجمة "حزب الله"، لأنه ليس مسجلاً قانوناً في وزارة الداخلية ولا في أي مكان آخر كي نتمكّن من التصدّي له في المحاكم ، فما علينا إلا أن نتصدّى للرجل الذي يمنحه الغطاء المسيحي، أي ميشال عون.
فرئيس الجمهورية هو الشخص الوحيد الذي يؤدي اليمين الدستورية بموجب المادة 50 من الدستور، وقد جاء نصّها على الشكل الآتي: "أحلف بالله العظيم إني احترم دستور الأمة اللبنانية وقوانينها واحفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه".
بعد الانفجار الخطير في العنبر 12، أخلّ ميشال عون بالقسم على عدة مستويات:
-تأمين سلامة السكان، إذ أقرّ ميشال عون بأنه كان على علم بضخامة المخزون وعواقبه الخطيرة في حال إنفجاره، وبالرغم من ذلك لم يبادر .
-رفض أي تحقيق دولي بإمكانه أن يحدد هوية الجناة الحقيقيين وهم غير المسؤولين القلائل الذين ألقي القبض عليهم، بل هم أولئك الرؤساء الذين لم يتجاوبوا مع إنذارات مرؤوسيهم.
- التغاضي عن الأنفاق التي تهدّد أمننا. إنها محفورة تحت أرض المرفأ وأرض المطار، ناهيك عن الأنفاق التي اكتشفت في العام الماضي عند الحدود الجنوبية للبلاد.
- رفض إحكام السيطرة على الحدود مع سوريا، مما سمح بالتهريب، وبنشوء اقتصاد مواز يكلف البلاد مليارات الدولارات كل عام، ويقضي على الإحتياطي من العملات الأجنبية.
- الإمتناع عن توقيع التعيينات القضائية، التي اعتمدها بالإجماع مجلس القضاء الأعلى والإمتناع هذا يعرّض سير العدالة للخطر، ويمنع إدانة الفاسدين.
بصفتي حاملا وحاميا لإرث الجد الذي كان ولا يزال المرجع الدستوري الأساسي، وجب عليّ أن أناشد جميع الذين تعاونوا معه، والخبراء الدستوريين والمحامين الذين درسوا ودرّسوا في مؤلّفاته، اتخاذ إجراءات ضد ميشال عون ومقاضاته بتهمة الخيانة العظمى وانتهاك الدستور.
أود أن أنهي بكلمات بوريس فيان هذه، بعد الهزيمة الفرنسية في عام 1954:
Monsieur le Président
Si vous me poursuivez
Prévenez vos gendarmes
Que je n'aurai pas d'armes
Et qu'ils pourront tirer
السيد الرئيس إنْ طاردتني ،قل لأفراد عسكرك إنه لن يكون بحوزتي سلاح وإنه بإمكانهم إطلاق النار.
ملاحظة: أود أن أشكر من صحّح هذا النص، وهو في المناسبة أجرى التصحيح وسط ركام منزله الذي دمّره الإنفجار. وسوف أكون له شاكراً إلى الأبد.
المصدر: "النهار"