لا يشبه القطاع المصرفي اللبناني نظيره في أيّ بلد عربي، وذلك لسببين، الأوّل أنّ القطاع المصرفي في أيّ بلد من البلدان العربية لم يكن قطاعاً مؤسّساً لهوية البلد الاقتصادية والسياسية، كما هي حال القطاع المصرفي اللبناني بالنسبة إلى لبنان كمجتمع ودولة. والسبب الثاني إنّ القطاع المصرفي اللبناني كان منذ سنوات بنيانه الأولى ذا وظيفة إقليمية، بداية مع استقطاب الرساميل العربية الهاربة من الموجة الاشتراكية العربية وثمّ مع الفورة النفطية في بلدان الخليج العربي والعراق والتي آل جزءاً مهماً من رساميلها إلى خزائن المصارف اللبنانية المعزّزة بقانون السرية المصرفية. ليس هذا وحسب، فقد توسّع القطاع المصرفي اللبناني في العقدين الماضيين إلى دول عربية مثل مصر والأردن وسوريا وكردستان العراق كحاجة ليبرالية في هذه البلدان.
كلّ هذا التاريخ المصرفي في لبنان ارتكس منذ بدء الإنهيار اللبناني في تشرين الأول 2019. ولذلك ليس غريباً أو مفاجئاً أن يتزامن انهيار القطاع المصرفي مع انهيار لبنان كدولة وبنية اجتماعية اقتصادية تمتلك الحدّ الأدنى من التماسك والتوازن الوظيفي. والمسألة هنا ليست تقنية حسابية وحسب بل سياسية بالدرجة الأولى. إذ أنّ هذا الإنهيار هو نتيجة اختلال مستدام في تطابق سياسات الدولة مع النموذج الاقتصادي التاريخي للبنان، خصوصاً أنّ السياسات الخارجية للدولة اللبنانية كانت في العقد الأخير على تناقض واضح مع المقتضيات الحيوية للنموذج الإقتصادي اللبناني وعموده القطاع المصرفي الذي فقد وظيفته الإقليمية التي تشكّل أحد أهمّ عناصر ديمومته.
لذلك يمكن القول إنّ لبنان شهد في العقدين الماضيين ولاسيّما بعد اغتيال رفيق الحريري تقابلاً بين مشروعين إقليميين: مشروع حزب الله تحت المظلّة الإيرانية التوسعية، ومشروع القطاع المصرفي كواجهة لليبرالية الاقتصادية اللبنانية التي استأنفها الحريري وحفّزها مستفيداً من شبكة علاقاته العربية والدولية المتينة والواسعة. بهذا المعنى فقد كان لهذه الليبرالية جوهر سياسي كنقيض سياسي/ اقتصادي للتشدّد السياسي والأمني للنظام السوري وحلفائه وفي مقدّمتهم "حزب الله".
من هنا كان القطاع المصرفي محدّداً أساسياً لوجهة الصراع الإقليمي/الدولي حول لبنان، بين دول الاعتدال العربي- وفق تسمية ما بعد 11 أيلول – وفي مقدمتها السعودية ومصر، وبين سوريا المتحالفة مع إيران و"حزب الله". إذ كانت سياسات الحريري ترتكز، لاسيّما في سنواته الأخيرة، على مبدأ أنّه كلمّا نجح وازدهر النموذج الإقتصادي اللبناني وعلى رأسه القطاع المصرفي كلمّا استطاع لبنان التّخفف من وطأة الوصاية، وذلك عبر تعويم الوظيفة الإقليمية السياسية والاقتصادية لليبرالية اللبنانية. وهو ما كان سيؤمن غطاء عربياً ودولياً أكبر للحريري وضغطاً أكبر في المقابل على النظام السوري وصولاً إلى دفعه للانسحاب من لبنان. علماً أنّ النظام السوري نفسه عندما نوى أن "يتلبرل" بهدف تقليص الضغط الدولي عليه استعان بالمصارف اللبنانية التي فتحت فروعاً بالعشرات داخل سوريا.
والحال هذه فقد ورث حزب الله دور النظام السوري في لبنان لناحية محاولة الاستفادة من الليبرالية اللبنانية وفي الوقت نفسه محاولة التشويش عليها وتقويضها لأنّها في النهاية نقيض نموذجه السياسي/الاجتماعي. هنا التبس دور القطاع المصرفي بحيث بدا وكأنّه يحاول أن يداري الأوضاع المستجدة بدلاً من مقاومتها والضغط سياسياً لتثبيت وظيفتيه المحلية والإقليمية، وهما وظيفتان سياسيتان في الأساس أو بالأحرى هما وظيفتان تحدّدهما الظروف السياسية في لبنان والمنطقة. إذ ليست وظيفة القطاع المصرفي اللبناني زيادة عدد قروض السيارات والشقق السكنية في لبنان، وإنّما المحافظة على الاقتصاد الحرّ مع الحرص على مواكبة حركة المجتمع وتحولاته مواكبة جدّية. أي أن تعي المصارف دورها السياسي والاجتماعي في لبنان كقطاع تاريخي ومؤسّس للهوية الاقتصادية والسياسية والثقافية لهذا البلد.
وفي المحصلة يمكن القول إنّ ثمّة مشروعاً إقليمياً انتصر حتّى الآن في لبنان منذ اغتيال رفيق الحريري وصولاً إلى الانهيار المالي والاقتصادي. إنّه مشروع "حزب الله" لزعزعة النموذج الإقتصادي الحر في لبنان وإسقاطه كتوطئة للسيطرة الإقتصادية على البلد، بعد السيطرة الأمنية والسياسية عليه. هنا جوهر الصراع الذي ربّما فات المصارف التي وكما سائر القطاعات في البلد بما في ذلك القطاع السياسي حاولت "مسايرة" الوضع القائم، لكنّها مسايرة آلت في النهاية إلى الخراب، في لحظة دخول إسرائيل إلى "نظام المصلحة العربية"، وهي لن تكون حريصة أبداً على الوظيفة الإقليمية للقطاع المصرفي اللبناني، بل بالعكس فهي مسرورة لانتكاسته الكبرى.
كيف النهوض مجدداً أمام كلّ هذه المخاطر؟ هذا السؤال الصعب الذي يفترض أن يسأله الحريصون على نموذج الاقتصاد الحرّ في لبنان، لأنّ انهيار هذا النموذج، وقد انهار فعلاً، سيرتّب تغييراً جذرياً لوجه لبنان التاريخي: المتوسّطي الذي نظّر له المفكّر والمصرفي ميشال شيحا والعربي الذي ثبّته اتفاق الطائف!