مرّ أسبوعان فقط على إجراء الإنتخابات النيابية، لكنّ نظرة سريعة على مجمل أوضاع لبنان منذ 15 أيّار كافية لاعتبار أنّ الانتخابات حصلت منذ مدّة أطول بكثير. والغريب أنّ النوّاب الجدد الذي يفترض أن تتملكهم الحماسة للخوض في المسائل السياسية والمشكلات الإقتصادية والكوارث الاجتماعية يتصرّفون كأنّهم في فترة نقاهة بعد الإنتخابات، إذ بالكاد تعثر على تصريح سياسي مهمّ لأحدهم، وإذا حصل فيكون موضوعه انتخابياً فإمّا احتفال بالانتصار أو شكر للناخبين أو وعود بالإنجازات، وذلك كلّه ولبنان الذي كان يقف على حفّة الانهيار الكبير عشّية الانتخابات استأنف تقدّمه نحوه، لولا عودة سحر التعاميم وأسحار السياسة الخفية التي ما تزال هي هي قبل الانتخابات وبعدها.
والغريب المضحك المبكي أيضاً أنّ الاحزاب اللبنانية التي تتغنّى بديموقراطيتها تبدو بعد الإنتخابات أكثر انغلاقاً ممّا قبلها، فلا تصدر عنها أيّ مراجعة أو نقد لأدائها السياسي والإنتخابي ولا تقدّم تقييماً للعملية الانتخابية ككلّ ولنتائجها السياسية على البلد، وإنمّا تكتفي بإعلان الإنتصارات والتهانئ وتكمل لعبتها السريّة على مستوى الرأس وبعض الحاشية بعيداً عن المحازبين الذين بذلوا الجهد فوق الجهد طوال الانتخابات. فلا شيء اسمه من "تحت لفوق" في لبنان، لا في الدولة ولا في الأحزاب ولا في الثورة ولا حتّى في المؤسسات الدينية والتربوية والخيرية. فالديموقراطية اللبنانية ستارٌ تدور خلفه كلّ أنواع الديكتاتوريات صغيرها وكبيرها. أكثر من ذلك فإنّ الأحزاب اللبنانية تعتدّ بديموقراطيتها مقابل "لاديموقراطية" حزب الله، وعندما تُمتحن في ديموقراطيتها يتبيّن أنّها تحاول تقليد حزب الله في انغلاقه. حتّى أنّ معيار الحزب الناجح في لبنان أصبح القدرة على الإنضباط والتعبئة بالقياس إلى حزب الله لا إلى مستوى الأداء الديموقراطي داخله.
صحيح أن نتائج الانتخابات جاءت مفاجئة وتحديداً لجهة خسارة حزب الله وحلفائه الغالبية النيابية والأهمّ لجهة انتخاب ما بين 13 إلى 16 نائباً محسوبين على انتفاضة 17 تشرين أو منبثقين عنها. لكن الصحيح أيضاً أن شعارات المعركة الإنتخابات ومجرياتها كانت كفيلة باعطاء صورة وافية عن مشهد ما بعد الإنتخابات. فالمباغلة الشعارتية قبل الانتخابات تدلّ بالدرجة الأولى إلى تصلّب الستاتيكو السياسي في البلد وإلى جمود اللعبة السياسية أيّا تكن الهوية السياسية للغالبية النيابية وأيّا يكن طموح التغييريين. لذلك لا يعود مستغرباً أن ينتقل حزب الله، الذي يكاد يحتكر السياسة في لبنان بسبب سلاحه، من اتهام خصومه بالعمالة مع السفارات والتطبيع مع إسرائيل إلى دعوتهم إلى الحوار والشراكة. ولا يعود مستغرباً أيضاً أن ينخفض الخطاب المناوئ للحزب عند الأحزاب والقوى المسمّاة سيادية إلى أدنى مستوياته مباشرةً بعد الإنتخابات. ولا شكّ أن السيادة أصبحت عنواناً ترتكب تحته كلّ الموبقات السياسيّة من ضرب للخصوم السياديين إلى ترشيح أشخاص بينهم وبين السيادة مسافات لا ترى بالعين المجرّدة. والأهمّ أنّ السيّادة إذا ما قورنت بالممارسة السياسيّة للسياديين ما هي إلّا ترند انتخابي مثلما هي اتهامات حزب الله لخصومه بالتطبيع.
لذلك وبما هو أبعد من السياسة هناك حاجة في لبنان إلى اعادة تعريف المصطلحات السياسية من سيادة وحرية واستقلال وديموقراطية وتغيير وصولاً طبعاً إلى المقاومة. كل هذه المصطلحات السياسيّة أصبحت فارغة من مضمونها إذ أن ترجماتها لا تعبّر عن الواقع الذي تدعّي التعبير عنه. فلا رفع شعار السيادة كافِ لمواجهة سياسات حزب الله التغلبيّة في وقت يغرق البلد تحت بحر من الأزمات الإقتصادية والإجتماعية لا يمكن تجاهلها في أيّ عمل سياسي بحجّة الأولوية السياديّة، وأي سيادة أصلاً وأيّ سياديين؟! كذلك فإنّ الحرية التي يريد الخطاب المهيمن الترويج لها تقف عند حدود الطوائفيات، وقد بحّ صوت بعض المرشحّين وهو ينادي بالحرية بينما استشرس لمنع حفل موسيقي في جبيل منذ ثلاث سنوات بحجّة أنّه يروّج للشيطان! أمّا الديموقراطية فحدّث ولا حرج، لاسيّما أنّ الأحزاب التي تعدُ بلبنان ديموقراطي هي نفسها أحزاب الرجل الواحد، أو بالحد الأقصى أحزاب لا يتجاوز عدد منتجي القرار فيها أصابع اليد الواحد بينما المحازبون يصفقون أو يفصلون. وأمّا المقاومة فلا يحدّها زمان ولا مكان. وأمّا التغيير وهو مصطلح المرحلة، فإنّه مصطلح بقدر حاجته إلى التعريف فهو بحاجة إلى الحماية ليس ممّا يسمّى أحزاب السلطة وأحزاب المنظومة وحسب بل أيضاً من التغييريين أنفسهم أو من بعضهم، فهولاء أيضاً لوحدهم لا أحد يسائلهم ولا أحد يحاسبهم... إلّا بعد أربع سنوات!