عام 1949 كتب جورج نقاش "نفيان لا يصنعان أمّة" في إشارة إلى مضمون ميثاق 43 القائل "لا شرق ولا غرب".
كم يبدو اليوم هذا الشعار طوباوياً وشاعرياً أمام الشعار الذي لم يعُد ممكناً رفع غيره اليوم في بيروت وهو: "سلاحان لا يصنعان وطناً".
تعايش اللبنانيون مع تناقض الميثاق الذي أشار إليه نقّاش بقدر كبير من النجاح بين 1943 و1975 واستطاع لبنان أن يكون، بالرغم من التوتّرات الجيوسياسية المحيطة به بلداً، ذا دور إقتصادي وسياسي في المنطقة إلى أنّ انفجرت الحرب ولأسباب تتجاوز تناقض الميثاق نفسه بعدما فقدت الدولة سيادتها عندما انتقلت القيادة العسكرية والسياسية الفلسطينية من الأردن إلى بيروت.
أمّا انفجار المرفأ مساء الثلاثاء فكان تأكيداً بالدم لاستحالة التعايش بين سلاحين تحت سقف الدولة والجمهورية.
فهل يمكن الشكّ في أنّ مرفأ بيروت كما مطارها يقعان تحت نفوذ حزب الله؟ لقد كانت مجرّد الإشارة إلى مراقبة الحزب لمطار رفيق الحريري الدولي والدعوة إلى إقالة رئيس جهاز أمنه سببين كافيين للحزب ليشنّ هجوماً عسكرياً على بيروت والجبل، وذلك للتأكيد أنه لا يسمح بأن تمسّ سيطرته على المطار. فهل يمكن ألّا يسري على المرفأ ما يسري على المطار لجهة نفوذ الحزب في هذين المرفقين الحيويين القريبين من الضاحية الجنوبية؟
والحال ليس تخزين 2700 طنّاً من نيترات الأمونيوم في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت منذ ستّ سنوات مسألة يمكن الاكتفاء بالبحث عن أسبابها في كواليس الإدارة اللبنانية المنخورة بالفساد. فهل يمكن عزل هذه القضية عن وقائع السيطرة الأمنية في المرفأ وذلك بالنظر لطبيعة هذه المواد المخزّنة والتي تستخدم في تصنيع المتفجرّات، ولكميتّها أيضاً؟
وهذا يترك أسئلة كثيرة عن سبب ترك هذه المواد شديدة الخطورة في العنبر رقم 12 طيلة ستّ سنوات. وهل يمكن الظنّ للحظة أنّ حزب الله لا يعلم بوجودها هناك؟ فلماذا لم يضغط لنقلها؟ ألا يشكّل وجودها في المرفأ انكشافاً أمنياً كبيراً أمام إسرائيل التي تهدّد تكرارا بقصف البنى التحتية اللبنانية في إطار مواجهتها مع حزب الله وإيران في المنطقة؟ وهو تهديد كرّره نتانياهو أخيراً بعد تلويح حزب الله بالرد على سقوط عنصر له في قصف إسرائيلي على قاعدة إيرانية في دمشق منذ أسبوعين. علماً أنّ إسرائيل كانت قد اتهمت الحزب بأنه يستخدم مرفأ بيروت كـ "محور نقل بحري للأسلحة من إيران"، وهو ما يؤكدّ احتمال قصفه في أي وقت في ظلّ مواجهة مفتوحة بين إسرائيل من جهة وإيران وحزب الله من جهة أخرى.
لقد حصل الانفجار في توقيت سياسي وأمني/عسكري معقّد جداً. فمن جهة هناك الضغط الأميركي الإسرائيلي المتصاعد ضدّ إيران في مجلس الأمن وفي المنطقة عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، ومن ذلك توالي التفجيرات الغامضة التي استهدفت البرنامج النووي داخل إيران، كما تنفيذ إسرائيل 20 غارةً على قواعد ايرانية خلال 100 يوم، وقصفها الإثنين الماضي مجموعة يرجح أنها تابعة لإيران ومواقع رصد سورية في ريف القنيطرة والجولان. وفي السياق عينه يستمر "حبس الأنفاس" على الحدود الجنوبية حيث توعّد حزب الله بالرد على مقتل عنصره في سوريا.
ومن جهة ثانية وفي الداخل اللبناني كان من المرتقب أن تصدر المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حكمها في جريمة اغتيال رفيق الحريري الجمعه 7 الجاري قبل أنّ تؤجّل، عقب وقوع الانفجار، النطق به إلى 18 منه. وليس خافياً أنّ المحكمة المذكورة تتهمّ 4 عناصر من الحزب بتنفيذ عملية الاغتيال تلك، مع ما يمكن أن يرتّبه ذلك من تبعات على الحزب محلياً ودولياً. وكذلك فإن لبنان يعيش على وقع الانهيار المالي المتفاقم وقد كانت زيارة وزير الخارجية الفرنسي الاسبوع الماضي بمثابة الإنذار الأخير حول حقيقة الأوضاع المتشائمة في لبنان لجهة امتناع السلطة السياسية عن الإصلاحات التي من دونها لا يمكن توقّع أي مساعدات أو قروض غربية للبنان.
هذا التوقيت الدقيق للإنفجار يجعله متعدّد السيناريوهات لجهة أسبابه المباشرة وتلك المتصلة بمخزون "نيترات الأمونيوم" في المطار. فمن جهة هناك سياق المواجهة الكبيرة في المنطقة والتي يشكّل لبنان ساحة من ساحاتها، ومن جهة ثانية تترك الأوضاع السياسية والمالية المعقّدة في لبنان احتمال أن يكون الإنفجار مفتعلاً لإعادة خلط الأوراق في البلاد احتمالاً وارداً جداً.
ولذلك فلا مناص من تشكيل لجنة تحقيق دولية لكشف حقيقة ما حصل، لأنه ببساطة لا يمكن انتظار تبيانها من سلطة وأجهزة تركوا 2700 طناً من "نيترات الأمونيوم" في مرفأ بيروت لستّ سنوات، فإمّا أنهم مهملون ويفتقرون للكفاءة وإمّا أنهم لا يملكون القرار في المرفأ، ولمن القرار إذاً؟ وفي الحالين فإنّهم لا يؤتمنون على إظهار الحقيقة في جريمة أودت بحياة أكثر من 154 شخصاً وجرحت الآلاف ودمرّت مرفأ المدينة وأحياءها السكنية.
الحقيقة في جريمة المرفأ فضلاً عن أنّها الطريق نحو تحقيق العدالة فهي ستكشف ما إذا كانت عنابر المرفأ قد حوت أسلحة وصواريخ. وهو ما سيجعل السؤال ملحّاً عن مخابئ الأسلحة الإستراتيجية لحزب الله في الأماكن السكنية وبالقرب منها. إنها الطريق الوحيدة نحو جعل لبنان آمناً!!