انتقل وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان الى بيروت في مهمة هدفها المعلن استطلاعي انقادي، اما الحقيقي والواقعي فهو شبه مستحيل! ما حمله من افكار واقتراحات وحجج الى أركان السلطة في لبنان معروف ومعلن، تقوله فرنسا وتكرره منذ عقدين، من مؤتمر "باريس-1" (1996) و"باريس-2" (2002) اللذين عقدا بمسعى من رئيس الحكومة يومذاك رفيق الحريري، الى "باريس-3" (2007) بمسعى من رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، الذي واجهه "حزب الله" والعونيين باقفال منافذ بيروت وافتعال مواجهات وصدامات مسلحة في محيط جامعة بيروت العربية انتهت بسقوط ضحايا. الهدف كان اسقاط الحكومة لافشال المؤتمر ومنع انشاء المحمكة الدولية الخاصة بلبنان في جريمة اغتيال الحريري. ثم أعادت فرنسا الكرة مجددا في مؤتمر "سيدر" الذي عقد في نيسان 2018، في باريس لدعم لبنان بمشاركة الدول المانحة، التي خصصت 11 مليار دولار كمساعدات ربطتها باجراء اصلاحات هيكلية بنوية، اساسية وضروررية، من اجل اعادة وضع الدولة ومؤسساتها على السكة.
وهذا الكلام يعرفه جيدا السياسيون الذين تعاقبوا، او استمروا، في السلطة طيلة هذه الفترة، وسمعوه مرارا وتكرارا من الفرنسيين والاوروبيين والولايات المتحدة، ومن المؤسسات الدولية، واخيرا من صندوق النقد الدولي. ولكنهم داروا آذانهم الصماء غير آبهين بمسار البلد الانحداري الذي شاركوا هم في نهبه ودفعه نحو الهاوية، وفي رهن قراره واستتباعه للمحور الايراني؛ كما لم يأبهوا لانتفاضة شعبية اجتاحت، في تشرين الاول الماضي، كل المناطق اللبنانية. ولكن باريس، وبحكم الروابط التاريخية والثقافية و"العاطفية" التي تربطها بلبنان، فانها ما زالت تعتبر نفسها معنية به أكثر من غيرها من الدول، وحريصة على مستقبله، وما زالت تقنع نفسها بان هذا البلد صاحب دور في محيطه العربي. لذلك، فهي تصر على المحاولات تلو الأخرى، وقد أرادت هذه المرة ان تلتقي المسؤولين مباشرة، وليكلمهم وزير خارجيتها وجها لوجه، ويضعهم أمام مسؤولياتهم، ليس ليكتشف او ليتأكد من أنهم لن يتجاوبوا مع مسعاه، وانما لأنه يعرف انهم لن يتجاوبوا، ولا هم معنيين باي عملية اصلاح.
ولذلك، فان لودريان لم يأت الى بيروت لاقناعهم بالاصلاحات، وهو يعلم علم اليقين ان المشكلة هي سياسية قبل ان تكون اصلاحية، ويعلم ان القرار ليس بيد رئيس الجمهورية، وانما عند "حزب الله" الذي يضع يده على الحكومة، ويمسك بزمام القرار، ويتخذ لبنان كرهينة لحساب ملالي طهران. أتى لودريان الى بيروت حاملا رسالة هي أشبه بتحذير من انه لم يعد هناك من وقت لاضاعته. وهو تحذير باسم باريس، وكذلك باسم واشنطن التي تشدد الضغط بعقوباتها على "حزب الله" منذ فترة، وحتى من قبل الدول الخليج. لا دعم ولا خروج من العزلة اذا لم يرفع نصرالله يده عن السلطة! هذا الشعار بات عنوان المرحلة. أكثر من ذلك، الضغوط الاميركية ستزداد وستطال من الآن وصاعدا الأصل والفروع، ايران وكل أذرعها في المنطقة، في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن، وحتى في ايران نفسها، بكل الوسائل الممكنة، في الجو كما في اليابسة، وعلى الحدود وفي المعابر حيث يمارس "حزب الله" كل انواع التهريب. وما حصل مع طائرة الركاب المدنية الايرانية قبل ايام، بين الأجواء السورية واللبنانية، خير دليل وتأكيد على ذلك. وهذا الضغط والكباش حول التجديد لقوات "اليونيفل" العاملة في جنوب لبنان دليل آخر.
لم يعد هناك من قرار مجاني او عفوي. لم يعد بامكان "حزب الله" ان يحارب بسيف الآخرين. اصبح بين كماشة ضغط الاصلاحات الداخلية التي كشفته وكشفت حلفاءه واتباعه، والتي ليس بامكانهم لا القبول بها لأنها تفضحهم وتفضح فسادهم، ولا رفضها لان الشارع لهم بالمرصاد. وهو ان لجأ الى التصعيد جنوبا او في سوريا فان اسرائيل له بالمرصاد، كما حصل بالأمس في مزارع شبعا، والذي انتهى على شكل مناوشات من باب "رفع العتب"! وهو عمليا امام استحالتين لا حيلة له امامهما. ليس بامكانه ان يتنازل عما بات حصنه في الداخل ما يعني عدم استعداده للتخلي عن الامساك بقرار الحكومة اي حكومة، ولا يمكنه بالمقابل ان يذهب الى مواجهة حدودية او في اي ساحة خارجية، لا يقوى عليها حتى اسياده في طهران. وما قاله الشيخ نعيم قاسم بالأمس من ان حزبه لن يقبل ان تجره اسرائيل الى مواجهة خير برهان على ذلك!