مثله مثل سائر دول المنطقة التي تشهد نزاعات سياسية وعسكرية يقبع لبنان بين حالين: القديم الذي يغالب السقوط والموت والجديد الذي يكابد مخاض الولادة. والمقصود بالقديم هنا هو السلطة السياسية وشبكات نفوذها ومصالحها التي تآكلت بسبب إفلاس الدولة، وكذلك الأحزاب السياسية التقليدية التي تراجعت قدرتها على الاستقطاب والإقناع وقد تجاوز الزمن والأحداث خطابها. أمّا الجديد فهو الانتفاضة الشبابية الكامنة والتي تتّهم السلطات القائمة وتشكّك في أهليتها وتعلن اغترابها عنها.
حال "البين بين" التي يعيشه لبنان والتي كشفتها الأزمة المالية والاقتصادية والتطورات السياسية بعد 17 تشرين 2019، دليل قاطع على عمق الأزمة اللبنانية التي ما عاد يمكن التفتيش عن علاجات لها من خلال تدبير إداري من هنا أو إجراء أمني من هناك أو حتّى من خلال انتظار مساعدات عربية ودولية. فالأزمة الحقيقية هي في انعدام الثقة الداخلية والخارجية بالحكم القائم والذي يحاول الهروب من هذه الحقيقة المرّة بارتكاب المزيد من الحماقات الديبلوماسية والسياسية وبالجنوح أكثر فأكثر نحو عسكرة الشأن العام، والشواهد على ذلك كثيرة.
ولذلك فإنّ السؤال المطروح هو كيف يمكن الانتقال من الحالة القديمة إلى الحالة الجديدة، ومتى؟ فالمرحلة النزاعية التي دخلتها السلطة السياسية مكلفة جداً على المجتمع اللبناني الذي يتكبّد أثمان العجز السياسي للحكم. وهي أثمان لن تقتصر مفاعيلها على الحاضر أو المستقبل القريب بل على المستقبل البعيد ايضاً. ويكفي تصوّر تبعات الأزمة الحالية على الأجيال الجديدة لجهة مستوى تعليمها ونوعية فرص العمل المتاحة أمامها ولجهة الآثار النفسية للانهيار الحاصل عليها لإدراك الاتجاهات المؤسفة والخطيرة للوضع اللبناني. فكلّما بقي القديم في حالته النزاعية مترنّحاً يغالب السقوط كلمّا زادت كلفة الأزمة على الشعب اللبناني ولاسيّما الشرائح الأكثر فاعلية فيه أي الشابات والشبّان.
لقد كانت انتفاضة "17 تشرين" فرصة جدّية لتغيير الوضع السياسي القائم وهي نجحت من الناحية العملية في اسقاط حكومة سعد الحريري وبالتالي قضت على "التسوية الرئاسية" التي فشلت فشلت ذريعا في تحقيق ما وعدت به. لكنّها (الانتفاضة) وقعت في المقابل في فخّ حكومة "التكنوقراط" بعد أنّ كانت السلطة واحزابها قد نجحت في التضييق عليها في ساحاتها الرئيسية في بيروت وخارجها. لكن وبالرغم من ذلك فإنّ الانتفاضة أظهرت عمق الهوة بين السلطة والشعب وأكّدت أنّ نموذج الحكم القائم غير قابل للاستمرار وهو آيل إلى السقوط الحتمي بفعل تناقضاته الداخلية إن لم يكن بفعل تناقضه الأساسي مع الانتفاضة الكامنة.
لكن إلى أي حد لا يزال في الامكان انتظار سقوط السلطة من نفسها؟ وما هي كلفة هذا الانتظار؟ هذان السؤالان يفترض أن يحفّزا المجموعات الرئيسية في الانتفاضة والنقابات والقوى السياسية المعارضة إلى التفكير في كيفية كسر استعصاءات الوضع القائم في ظلّ عجز السلطة عن معالجة الأزمة وعجز المعارضة الشعبية عن إسقاط السلطة أو دفعها بالحد الأدنى إلى تغيير سلوكها، وفق التعبير الأميركي الشائع.
هذا يحيل إلى سؤال ثالث: هل في الإمكان بلورة مسارات سياسية جديدة ما دامت القوى المعنية بها لم تجر مراجعة لتجربتها منذ "17 تشرين"؟ منذ ذلك التاريخ ساد خطاب مكافحة الفساد الحيّز المعارض للسلطة على تنويعاته، بينما ردّت السلطة عليه بخطاب مماثل مدّعية أنها هي من تكافح الفساد، والأهمّ أنّ الائتلاف الحاكم استطاع أن يرسّخ الانطباع انّ الأزمة هي أزمة حوكمة وليست سياسية.
والحال فإنّ تطوّرات الأوضاع بيّنت العكس إذ أظهرت أنّ أصل الأزمة الراهنة سياسي ويتصّل بانحياز السلطة إلى محور الممانعة الذي يواجه ضغوطاً دولية كبيرة ما استجرّ على لبنان عزلة دولية وعربية وجعله أسير معادلات حزب الله الاقليمية. بالتالي فإنّ خطاب مكافحة الفساد ما عاد يعكس طبيعة الأزمة وتفاعلاتها لا بل على العكس فهو يغفل عن أسبابها الحقيقية ويفيد السلطة في الهروب من تحمّل مسؤولياتها السياسية. ولذلك فإنّ التفكير في تغيير الوضع القائم يوجب العودة إلى العمل السياسي من خلال التصويب على الاختلال الكبير في الأداء السياسي للسلطة سواء لجهة انحيازها إلى محور بعينه أو لجهة التفريغ الممنهج للنظام السياسي من مضمونه الديموقراطي والجمهوري. وما عدا ذلك أوهام، خصوصاً أنّ النطق بالحكم في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري سيشكّل محطّة مفصلية في الحياة السياسية والوطنية يفترض أنّ تؤسس لواقع سياسي جديد ولممارسة سياسيّة مختلفة، وهذا رهن بمقدار وعي مجموعات المعارضة لأهمّيته!