عاد بشار الأسد إلى البيانات العربية، وتحديداً السعودية منها، بصفته القديمة، أي بما هو رئيس للجمهورية العربية السورية. سفاراته فتحت أبوابها في العواصم العربية الكبرى. عادت طائرات الخطوط الجوية المدنية السورية إلى التحليق في الأجواء العربية كافّة. لكنّ أمراً وحيداً لن يعود: رئاسة قوّات الأمن والاستطلاع السورية لن تفتح أبوابها في بلدة عنجر البقاعية اللبنانية.
بين الأب والابن
سوريا الأسد لم تعُد هي نفسها. لا "أبو يعرب" موجود، ولا "أبو عبدو". لقد غادرا الحياة. أمّا جامع جامع فتختلف الروايات حول إقامة الصلاة على جثمانه.
بشّار ليس حافظاً الذي حكم لبنان بقرار أميركي - عربي. الأوّل ليس لديه شيء من هذا القبيل. الوالد غطّى حرب الخليج وشارك فيها. الابن ليس مطلوباً منه سوى كفّ الأذى وشحنات الكبتاغون عن العرب. الأب انتبه إلى معنى الداخل العربي الذي يبرّر شرعية نظامه. الوريث على العكس من ذلك: إيران أدارته وتديره، حمته ونصرته حتى استقرّت داخل أروقة قصر المهاجرين، وصارت مع حزبها اللبنانيّ الاسمِ مقرِّرين في عاصمة الأمويين.
ما بلغته إيران في سوريا ليس عارياً عن متعلّقات لبنانية جذرية، أوّلها حزب الله ونهايتها غير المحدّدة بدأت باغتيال الرئيس رفيق الحريري وما مثّله من مشروع وحضور عربيَّين. فقد كان رئيس الوزراء الراحل حامياً لعروبة لبنان بمعناها الحضاري لا الأيديولوجي.
حواجز "لبنانيّة" بدمشق
لم تتنبّه "غفلة الأسد الابن" إلى أنّ الاغتيال الإيراني للرئيس الحريري كان يرمي إلى أمور عدّة:
أ- إقصاء الحضور العربي عن لبنان وإسقاط حائط السدّ الأخير أمام وصول إيران إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط.
ب- نتائج الإقصاء كانت إحكام السيطرة على لبنان وتحويله من صندوق بريد إلى ميدان قتال لنظام الملالي.
ج- خروج الاحتلال السوري مع اغتيال الحريري كان ربحاً صافياً لحزب الله وإيران في مشروعهما الإقليمي.
مفارقة هذه المعطيات أنّها ترسم صورة نقيّة لِما آلت إليه أحوال الهيمنة والسيطرة: لا حواجز سورية في شوارع لبنان، بل العكس: "حواجز لبنانية" في شوارع دمشق.
أصبح الحزب وإيران المقرِّرين في سوريا. هكذا انتهى زمن "البوريفاج" و"عنجر"، وحلّ زمن طهران وحارة حريك. حتماً ما تزال طهران والحارة هما الحاكمتين والمقرِّرتين في بيروت ودمشق. وأيّة أوهام أخرى تبقى أوهاماً إلى حين إثبات العكس.
صار لزاماً على اللبنانيين والعرب التنبّه إلى أنّ إيران وحزب الله يعملان وفق استراتيجية طويلة الأمد. لا يشتغلان على القطعة ولا في أوقات الفراغ، سواء سياسياً أو عسكرياً. ما يستدعي الانتباه الشديد في هذا السياق هو إقصاء إيران والحزب خلال الانتخابات النيابية لكلّ من يحتمل "شبهة العلاقة" مع نظام بشار الأسد ما عدا نائب واحد. نزعت أنياب سوريا في لبنان. حدث ذلك بُعيد زيارة بشّار الأسد الأولى للعاصمة الإماراتية أبو ظبي للقاء الشيخ محمد بن زايد في آذار 2022، أي قبل شهر ونصف من الاستحقاق الانتخابي النيابي.
ولئن عادت دمشق إلى وصل ما انقطع مع الدول العربية، لكنّ هذا لا يعني تفويضاً جديداً لها في لبنان. قبل هذا كان النظام السوري يعتقد أنّه سيأتي بكتلة نيابية تعطيه أرجحيّة التصويت لهذا أو ذاك، بما يعيد تزويده بنوع من عناصر القوّة. هذا لم يحصل. فقد وجّهت إيران، ومعها الحزب، ضربة استباقية لم تكن في حسبان أحد.
ما يفتقر إليه الأسد راهناً هو أنياب نظامه التي غرسها الأب في الجسد اللبناني. والأهمّ هو خسارته الفادحة للتفويض الأميركي الذي مُنِح لوالده إثر مشاركته في حرب الخليج الثانية. لا يستطيع الرئيس السوري اليوم أن يأخذ من الولايات المتحدة غير القبول بمجالسة أمنيّة لبحث مصير الصحافي المفقود في سوريا أوستن تايسون. وإن حصل على مقابل فلن يتعدّى القبول به رئيساً في قصر المهاجرين.
التفويض لإيران
التفويض الذي يبحث عنه الأسد منحه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما إلى الخامنئي وحرسه الثوري، ومعهما الفصائل المنضوية تحت "لواء فيلق القدس". حصل ذلك في اتّفاق عام 2015، ثمّ أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي في عام 2018، إلّا أنّ التفويض لم يُسحب بعد. فقد ثبّتت إيران مفاعيل هذا التفويض بمهادنتها ترامب في العراق وموافقتها في 2020 على وصول مصطفى الكاظمي إلى رئاسة الوزراء العراقية.
أكّدت إيران صلاحيّة تفويضها بعد الاتفاق مع السعودية برعاية الصين. جاء التأكيد من ثلاث جهات: جنوب لبنان، جنوب سوريا، وقطاع غزّة. كانت الصواريخ التي أُطلقت تقول بالفم الملآن إنّ الوصاية في لبنان وسوريا هي بيد قائد "فيلق القدس" الجنرال إسماعيل قاآني الذي كان في لبنان عشيّة إطلاق الصواريخ من الجنوب. وبعدها انتقل إلى دمشق ليلة إطلاق الصواريخ من الجنوب السوري على الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
من يتساهل مع إيران في بلاده لا يمكنه العودة إلى لبنان الذي هي مَن أخرجته منه في نيسان 2005.
*عن صفحة أساس-ميديا