أعاد "اللقاء الوطني" في 25 حزيران الماضي طرح مفهوم السلم الأهلي في التداول السياسي. لا شكّ أنّ الموضوع مهمّ وأنّ رئيس الجمهورية الذي خبر الحرب الأهلية يدرك مآسيها وبالتالي فإنّ دعوته للقاء عنوانه "تحصين السلم الأهلي" مفهومة. لكن في الواقع فقد كان هذا العنوان بدلاً من ضائع. لا لأنّ لا مخاطر فعلية على السلم الأهلي وحسب، "ما دام القوي لا يريد الفتنة" كما قال جبران باسيل خلال اللقاء وبالتالي نفى جدواه، بل لأنّ هذا المفهوم وإذا ما نظر إليه من خلال الأزمة الحالية ومن خلال كلام باسيل المذكور يصبح مفرغاً من مضمونه بل يحمل مضموناً سلبياً.
لقد برز مفهوم السلم الأهلي بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان كعنوان لمرحلة جديدة بعد 15 عاماً من الاقتتال الداخلي. لكن سرعان ما تحوّل هذا المفهوم إلى "شعار سوري" وأصبح كل من يتفوه به يؤكّد ويجدّد ولاءه لنظام الوصاية على لبنان أو يقدّم أوراق اعتماد له. بالتالي ما عاد هذا المفهوم منّزهاً، أقله في ذاكرة اللبنانيين الذين عاشوا تلك المرحلة، عن التوظيف السياسي إلى حدّ أنّه بات يرمز إلى نقيضه. أي إلى إلغاء الحياة السياسية وتدجين الديناميات السياسية/الاجتماعية بحيث لا يسود سوى خطاب واحد وكلّ ما عداه يصبح مشبوهاً وينفذ "أجندات خارجية".
والحال ليس من قبيل الصدفة أن تعود السلطة إلى استخدام تعبير "الأجندات الخارجية" خصوصاً على لسان رئيسي الجمهورية والحكومة في وقت يعاد انتاج مفهوم السلم الأهلي مقرون بالتأكيد أنّ "القوي لا يريد الفتنة" وهو ما ينطوي على تهديد حقيقي للسلم الأهلي ومن جانب الداعين إلى تحصينه. إذ تحيل العودة إلى شعار السلم الأهلي إلى أمرين مرتبطين جوهرياً بطبيعة الأزمة الحالية، الأوّل متصلّ بالأزمة المالية والاقتصادية التي تشتدّ يوماً بعد يوم. والثاني بوجود ميليشيا مسلحة تسليحاً ثقيلاً في لبنان بالرغم من أنّ أحد شروط إنهاء الحرب الأهلية، كان تسليم الميليشيات سلاحها للدولة وهو ما نصّت عليه وثيقة الوفاق الوطني.
فبمجرّد بلوغ الفالج المالي والإقتصادي هذه الحدود الخطيرة مهدّداً بفقدان اللبنانيين مقوّمات عيشهم الرئيسية فإنّ شعاراً مثل السلم الأهلي يصبح بالحد الأدنى ناقصاً ولا يعكس الواقع، إلّا أذا كان المراد منه القول إنّ هذه الأزمة قد تسبّب باندلاع اقتتال أهلي بين المذاهب والطوائف. وحتّى لو سلّمنا جدلاً بأنّ ذلك أمرٌ واردٌ والتحسّب له ضروري - علماً أنّ الاحتكاكات "الأهلية" الأخيرة في عائشة بكار وعين الرمانة، والمواقف المدينة لها، لم تؤشر إلى أنّ احتمال تجدد الاقتتال الأهلي جدّي – فإنّ طرح هذا الشعار في ظلّ فشل السلطة السياسيّة في معالجة الأزمة أو بالحد الأدنى منع تفاقمها يصبح وسيلة للتنصلّ من مسؤوليتها عن الأزمة. فإذا كانت الأزمة وفق منطق السلطة تشكّل خطراً على السلم الأهلي فالأولى بها إظهار جدّية في معالجتها وإلّا فحديثها عن "الأجندات الخارجية" يصبح هو الآخر نوعاً من التهرّب من المسؤولية. وليس قليل الدلالة في هذا السياق أنّ لبنانيين كثيرين تذكروا الحرب الأهلية في الأيام الماضية لا بسبب أحداث عائشة بكار وعين الرمانة بل بسبب التقنين الكهربائي وانقطاع المياه وغلاء السلع ولاسيّما الغذائية وفقدان بعضها وخلو الشوارع من المارة والمقاهي والمطاعم من الرواد. أي أنّ مظاهر الازمة الحالية والتي تفاقمت بسبب تقاعس السلطة السياسيّة عن التصدّي لها بسرعة وفاعلية هي ما يدفع اللبنانيين إلى استذكار الحرب، وحتّى السؤال: كيف يمكن القول إن الحرب انتهت ما دامت مظاهرها باقية في يومياتنا؟
ثمّ كيف يمكن الحديث عن تحصين السلم الأهلي بينما ينتشر على الأراضي اللبنانية حزب مسلّح ولا يكتفي بالحدود اللبنانية بل يتجاوزها إلى مناطق النزاع في المنطقة. هذا الاخلال الفاضح بسيادة الدولة اللبنانية والذي يلقى غطاء سياسياً من قبل المؤسسات الدستورية العليا هو ما يشكّل التهديد الفعلي للسلم الأهلي. وهو ما يمنع بدليل تطورّات الأزمة المالية سلوك لبنان طريق التعافي من نكبته الحالية، لأنّ الحكومة اللبنانية باتت أسيرة سياسات "حزب الله" المحلية والخارجية، تلك السياسات التي تواجه معارضة المجتمعين الدولي والعربي ما يجعله يدفع أثمان إقحامه في صراعات لا طاقة له على تحمل تبعاتها.
إذّاك تعيد الأزمة المالية والاقتصادية واختلال سيادة الدولة على ترابطتهما إنتاج واقع تداعي "أوصال الدولة" وهو ما يشكّل الخطر الفعلي على السلم الأهلي تماما كما كانت الحال عشية الحرب الأهلية إذ دفع تقهقر سيادة الدولة إلى انقسام الجغرافيا اللبنانية وإلى الاقتتال الطائفي والمناطقي. إذ أنّ الدولة بسيادتها الناجزة وحكمها الرشيد بحسن أدائها لوظائفها هي الضمان الاوّل للسلم الأهلي وتطويره ليصبح سلماً اجتماعياً، بمعنى قيام الدولة على أسس العدالة والمساواة بين مواطنيها، وإلّا بقي مفهوم السلم الأهلي حمّال أوجه ومحيلاً إلى حقبة الوصاية السورية على لبنان لجهة استظلاله من قبل السلطات لتنفيذ سياسات تدجينية وقمعية للمجتمع اللبناني. فهل هذا ما تسعى إلى تكراره الوصاية الإيرانية على لبنان بتواطؤ أهل "الخط"؟