قلّ أن تجد طوال السنتين الماضيتين لوحة إعلانات مشغولة على الطريق الساحلي. كان هذا دليلاً على الإنهيار؛ فلا سهرات ولا عروض إستهلاكية، وكاد الأمر أن يقتصر على شركات تحويل الأموال التي تعدّدت وظائفها طوال تلك الفترة!
أمّا الآن فقد بدأت هذه اللوحات الشاغرة باستقبال صور المرشحين والدعاية الإنتخابية، فهل يعني ذلك أنّنا خرجنا من الإنهيار أو أننا في طريقنا إلى الخروج منه؟
الواقع أنّه في ظلّ النكبة الإقتصادية والاجتماعية فإنّ أي أمر متصلّ بالإنتخابات يصبح موضع استغراب بل واستهجان. حتّى أنّ سؤال الناس عن مصدر المال لهذا المرشح أو ذاك لتأمين أبسط لوازم الإنتخابات كتنظيم حملة دعائية يصبح سؤالاً بديهياً أكثر من بداهة الحملة الإنتخابية نفسها. ففي ظلّ إنهيار كالذي يعيشه لبنان تصبح أكثر الأمور بداهة أكثرها مدعاة للشكّ والإستفهام.
هل ثمّة ما هو أكثر بداهة من أن يتمكّن مئات الآلاف من المودعين اللبنانيين من أن يتصرفّوا بأموالهم لقضاء أبسط حوائجهم، كالأكل والشرب ودفع أقساط المدارس والجامعات والطبابة فضلاً عن فواتير الكهرباء والبنزين؟ وبالرغم من ذلك فإنّ هذا الأمر البديهي أصبح مستحيلاً، بينما تُنظم الحملات الإنتخابية بالملايين، وبدلاً من أن يكون قانون الإنتخابات ضابطاً لسقف إنفاق المرشحّين فهو بمثابة غطاء لتجاوز هذا السقف؛ وهل يكفي إلزام المرشحيّن بتعيين مدقّق في حساباتهم؟!
هذا في وقت يشكو القضاة المولجون الإشراف على الانتخابات وإصدار نتائجها من أنّ أجرهم لمواكبة الانتخابات يكاد لا يكفيهم للتنقّل إلى مراكز عملهم.. وهذا قبل مصاريف الدولة على الإنتخابات في الداخل والخارج، وكلّ يوم مئة سؤال عن كيفية تأمين الاعتمادات اللازمة لهذه العمليّة!
لكن لا داعي لاستغراب ذلك كلّه ما دام النظام السوري لم يتوقّف طيلة فترة الحرب التي قتل فيها نحو 500 ألف سوري وهجّر أكثر من 10 ملايين آخرين عن تنظيم الإنتخابات، لا الرئاسية وحسب إنمّا النيابية وحتّى البلدية التي عجز لبنان عن تنظيمها هذا العام.
في سوريا انتخابات في ظلّ الحرب وفي لبنان انتخابات في ظلّ الإنهيار. في وقت يعود النظام السوري لاعباً في الإنتخابات اللبنانية، ولا بأس؛ فديموقراطية الحرب لا تختلف عن ديموقراطية الإنهيار، خصوصاً عندما يكون رفيق السلاح للنظام داخل سوريا، أي حزب الله، هو الناخب "الممتاز" في لبنان، ومن الجنوب إلى عكّار، لا ليفوز نوّابه وحسب وإنمّا النوّاب حلفاؤه أيضاً، كما قال أمينه العام في خطابه الأخير.
والسؤال: هل يمكن أن تُجري القوى السياسيّة الممسكة بالحكم إنتخابات ديموقراطية في وقت تعمل هذه القوى نفسها على تجويف النظام السياسي من ديموقراطيته. فأي معنى لديموقراطية الانتخابات النيابية إذا كانت الانتخابات الرئاسية أبعد ما يكون عن الديموقراطية. فهي عُطّلت سنتين ونصف لكي يصل الرئيس ميشال عون إلى قصر بعبدا، وهي ستعطّل ربّما لفترة أطول في الخريف المقبل ليصل إلى القصر "رئيساً قوياً" جديداً!
في ظلّ واقع كهذا يصبح القول إنّ هذه الإنتخابات فرصة للتغيير من دون تحديد ماهية هذا التغيير قولاً بلا أيّ مضمون سياسي، خصوصاً عندما يكون حزب الله، رأس السلطة، مصمّماً على تكريس الأمر الواقع، أي على فوزه وحلفائه في هذه الإنتخابات منعاً لأيّ تغيير.
عندئذٍ يصبح من الضروري النظر إلى الخريطة الإنتخابية بعين أوسع. فبينما يخوض الحزب الإنتخابات موحِدّاُ حلفاءه ما أمكنه ذلك لمنع التغيير، تخوض القوى المعارضة والتغييرية هذه الإنتخابات سعياً إلى التغيير لكن في ظلّ انقسام غير مسبوق في صفوفها على أوجه التغيير وكيفياته.
قد يعدّ ذلك شكلاً من أشكال التعدّدية السياسية، وهو أمر صحّي وطبيعي لكن في ظلّ وضع صحيح وطبيعي، بينما الوضع في لبنان خلاف ذلك. فوجود حزب الله بواقعه الحالي، أي بجناح سياسي وآخر عسكري هو وجود غير طبيعي ويجعل كلّ الحياة السياسية في البلد غير طبيعية وخارجة عن المألوف وهجينة لا هي ديموقراطية بالمطلق ولا هي غير ديموقراطية بالمطلق، أو أنّ ذلك كلّه يجعل الديموقراطية اللبنانية فاقدة لشروط الديموقراطية.
والأخطر أنّ القوى التغييرية التي تتجنّب المواجهة مع حزب الله تفعل ذلك بحجج مختلفة تبدأ بالواقعية السياسية وتنتهي بأنّه جزء كغيره من المنظومة السياسية فلماذا التركيز عليه وترك البقية. أي أنّها تبتكر منطقاً خاصاً لتجاوز الحالة الخاصة التي يمثلّها حزب الله فتعفي نفسها من طرح إشكاليته الوطنية وتُسقط من أجندتها التغييرة تحقيق المساواة بين اللبنانيين.
كذلك فإنّ عدم مواجهة الحزب، أي عدم جعل إزدواجيته الإشكالية كحزب سياسي/عسكري وجزء من منظومة إقليمية بنداً رئيساً في الخلاف السياسي والتنافس الإنتخابي، يعطي ذريعة للحزب للقول إنّ أميركا والدول الخليجية يواجهونه في لبنان عبر حلفائهم ولأسباب أميركية وخليجية. أي أنّه ينفي أي أسباب وطنية لمعارضته ولمواجهته.
وإذا كانت كلّ المطالب التغييرية ضرورية ومحقّة، فإنّ التغيير لكي يكون ممكناً يجب أن تكون الدولة ممكنة. وهي غير مُمكنة ما دام الحزب على ازدواجيته الحالية، يصوّت في البرلمان وفي الوقت نفسه يخزّن الصواريخ الدقيقة.
لذلك فإنّ شرط التغيير الحقيقي هو في القدرة على بناء وسط سياسي يظهّر مخاطر هذا الإختلال الكبير، ولأسباب وطنية بالدرجة الأولى. لكنّ الانتخابات وبدلاً من أن تشكّل فرصة لاستنهاض وسط سياسي وطني يعارض الحزب وحلفائه ويضع تصوراً لإدارة الدولة وتحقيق مصالح الشرائح الإجتماعية، فهي أظهرت إستحالة تكوين مثل هذا الوسط، وذلك بخلاف ما حصل غداة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عندما اكتمل عقد البناء السياسي الداعي إلى تحرير لبنان من الوصاية السورية.
والفرق بين المرحلتين، أنّ لبنان لم يفقد في زمن الوصاية مقوّماته السياسيّة والديموقراطية. فالصحافة وخصوصاً "النهار" كانت مؤثرة وذات دينامية سياسيّة معارضة واضحة، والأحزاب حتّى المحظورة منها كانت تمارس نشاطاً سياسياً وشعبياً فاعلاً وقويّاً، والشخصيات المستقلّة كانت قادرة على الفعل والمبادرة. أي أنّ دائرة التأثير المتبادل بين الدائرة السياسية والدائرة الإجتماعية لم تكن معطلّة. أمّا في ظلّ الإنهيار الحالي فكلّ ذلك كأنّه تبدّل وتغيّر، وهو ما يجعل التغيير حلماً بعيداً رغم كثرة "التغييريين"!