لطالما شكّلت الثقافة المستوردة، وتحديداً الغربية منها، مادّة للسجال والانقسام في لبنان. اللبنانيون الذين يختلفون دائماً وأبداً على كلّ شيء، وجدوا ضالّتهم أخيراً في فيلم "باربي".
"الفيلم" لا يتحدّث عن صبيّة حسناء آتية من خلف البحار وحسب، بل يتركّز على رمز للأنوثة لم يعهد له الدينيون مثيلاً.
الخلاف بين رجال دين وجدوا في "باربي" دعوة صريحة إلى "مثليّة" لم يقُل بها إسلام ولم تزكّيها "مسيحية"، في مقابل رجال ارتدوا طاقية الدعوة إلى الخروج على الدين والمجتمع من باب "حرّية اختيار الإنسان لجنسه ونوعه في العلن"، وعبر الدعوة إلى تشريعات قانونية تنسف القوانين السابقة التي تجرّم "الشذوذ" (المثليّة الجنسية) وتعاقب عليه.
قد لا تكون المرّة الأولى التي ينقسم فيها الاجتماع اللبناني الأهلي بكلّ تلاوينه الدينية واللادينية عمودياً بسبب قضيّة ما. لكنّ "باربي" أبرزت وجهاً جديداً للخلافات اللبنانية - اللبنانية.
قضيّة فيلم أم دين؟
لم تعد القضية محصورة بفيلم يُعرَض لمدّة زمنية ثمّ يُنسى بعدها. الفيلم أو عرضه بحدّ ذاته اعتُبر في مكان ما غريباً على المجتمع اللبناني المبنيّ في مفاصله الرئيسية على الدين.
هذا توضحه المؤسّسات الدينية الموجودة والصلاحيّات الواسعة الممنوحة لها في الدستور والقانون، عدا عن أنّ البلد قائم على تقاسم السلطات فيه طائفياً ومذهبياً.
والحال هذه، كان طبيعياً أن يتّخذ الخلاف شكل سجال ثقافي برزت فيه وجوه أبطال جدد من ركب السياسيين الذين كانوا يغرقون في سبات عميق إلى أن أيقظتهم حلوة بأناملها الناعمة. فانبرى وزير الإرشاد (الثقافة) محمد المرتضى لقيادة حملة ممنهجة ومنظّمة في مواجهة عرض فيلم "باربي".
نهوض وزير "الإرشاد" المرتضى
نهض المرتضى في حملته على قاعدة شعبية واسعة وتأييد لافت للانتباه من رجال الدين المسلمين والمسيحيين والدروز، فصار الرجل "بطلاً قوميّاً" على شيء لا يستحقّ، ذلك أنّ الأصل هو التربية الثقافية والأخلاقية المنفصلة تماماً عن الأديان.
أصلى اللبنانيين حرباً ثقافية أعدّ لها ما استطاع من قوّة "التغريد" ليرهب بها "عدوّ" الدين والمجتمع وحتى الله نفسه. وهذا بطبيعة الحال كان كافياً بالنسبة إلى الوزير ليحظى بتأييد شريحة من المتديّنين ثقافتها راسخة في الانتصار لـ "الذكر" على حساب "الأنثى".
الأنثى المخلوقة المغلوب على أمرها في صروح قضائية طائفية لم تنصفها يوماً باعتبارها ناقصة إيمان وحظّ. لكن في المقابل ثمّة من وجد في الفيلم "الغربي" فرصة سانحة يمكن أن يستند إليها من أجل خلق أرضيّة يؤسّس عليها في تغيير وجه المجتمع وجنس أبنائه من خلال "تشريع" لـ"مثليّة" باعتبارها حقاً وواحدة من الحرّيات الشخصية في بلد لا يحظى فيه هذا النوع من الحرّيات بأولوية تُذكر.
مع "المثليّة"... وضدّها
بغضّ النظر عن الخلاف "مع" أو "ضدّ"، بتنا في جوّ ضاغط على الناشطين والمثقّفين، بسبب تسطيح الثقافة واختزالها بالقبول بـ"المثلية" وإلّا يكُن المثقّف "شاذّاً فكرياً" عن التيار السائد. وهذه وجهة نظر لا يمكن تجاهلها لأنّها تمثّل جزءاً كبيراً من اللبنانيين الذين، على الرغم من ثقافتهم "المودرن"، لم يبلغوا بعد مرحلة قبول اختيار أبنائهم لجنسهم وميولهم الجنسية، بل إنّهم يرفضون هذه الفكرة بالمطلق بدليل أنّ الكثيرين منهم الذين يعيشون في مجتمعات غربية يعبّرون دائماً عن خشيتهم من هذا الأمر.
أكثر وأبعد من ذلك، وصلت الحال بالغلبة منهم إلى حدّ هروب آباء من من المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها خوفاً من "انحراف" أولادهم، ذكوراً وإناثاً. وفي المقابل، ثمّة من يجد في هذا "الاختيار الشاذّ" وسيلة لتعزيز الحرّيات الشخصية باعتبار القضية شأناً خاصّاً بالإنسان وحده من دون مجتمعه.
على الرغم من كلّ فلسفات الحرّية وادّعاءاتها، وهي مشروعة شئنا أم أبينا، يبقى السؤال: هل الثقافة الحديثة لا تستوي على عرشها إلا بميول جنسية مخالفة للأديان والطبيعة البشرية؟
*عن صفحة أساس-ميديا