العلاقة بين حارة حريك وميرنا الشالوحي لم تعد على حالها. بالعكس فقد تصدّعت بين الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصر الله وبين رئيس "التيار الوطني الحرّ" جبران باسيل، بل انحدرت نحو السيّئ. صار "تفاهم مار مخايل" في غرفة الإنعاش السياسي بعد ما أصاب العلاقات بين الطرفين من تصدّعات. لم تكن بداية الاهتزاز مع اجتماع حكومة تصريف الأعمال الأخير، بل هي مجموعة من الصفعات التي وجّهها الحزب إلى التيّار.
في البدء كان "تفاهم مار مخايل" ضرورة أشدّ للحزب، وحاجة أقلّ للتيّار. خاف الطرفان آنذاك من العزل السياسي. تبدّلت الآن الأمور رأساً على عقب. صارت حاجة باسيل إلى نصرالله أعلى. أكثر من ذلك، أصبح رئيس "التيار العونيّ" أسير الأمين العام للحزب. حسم الاجتماع الحكومي الأخير أنّ الحزب هو من يُقرّر وليس باسيل ووزراؤه التسعة. وها هي كلمات جبران باسيل في مؤتمره الصحافي الأخير تقول الكثير. هي ترثي الحاضر وتنعى المستقبل بينهما. أجلفها: "الشراكة عندما تنكسر تصبح عرجاء، سواء كانت وطنية أو حزبية... مشكلتنا ليست مع نجيب ميقاتي بل مع مشغّليه".
في الشكل خارت القوّة العونيّة، انتهت متّكئة على خطاب سياسي ما عاد يُجدي. "عديقه" الراهن صار من طبيعة إقليمية منذ غادر لبنان عابراً سوريا والعراق إلى اليمن.
ومن فضائل "ثورة 17 تشرين" النادرة أنّها وضعت العلاقة بين الاثنين على طاولة البحث. آنذاك انبرى الحزب لحماية السلطة بادّعاء أنّها "الدولة"، وآنذاك أيضاً راح "التيار العوني" يتداعى في شوارع بيروت وصولاً إلى شبكة "سي.إن.إن". تكفّل الحزب بالحماية "الميدانية"، بعدما كان التيار يريد محاكمة كلّ حقبة ما بعد توقيع اتفاق الطائف وبدء السلم الأهليّ البارد والمسلّح. طلب من الحليف رؤوس الجميع، وهذا كان مرفوضاً بالمطلق. بدا أنّ الحزب يُدرك طبيعة النظام السياسي جيّداً، فيما "العونيّة" تُقارب السياسة من باب الهواية، لا من باب الحِرفة. أعلنت إفلاسها وفشلها تحت مقولة "ما خلّونا نحكم". في انتخابات مجلس النواب 2005 نالوا 70 في المئة من أصوات المقترعين المسيحيين، وفي انتخابات العام الحالي انحسر تمثيلهم إلى 20 في المئة.
تبدّد زعم القوّة الذي كاسر باسيل به كلّ القوى السياسية. فقدت "العونيّة" شروط قوّتها باستسهال قوّة أخصامها. لم تترك طرفاً إلّا وعادته، وهذا حصل مع نبيه برّي، وليد جنبلاط، سمير جعجع، الحريريّة أصلاً وأهلاً، وسليمان فرنجية. لم تدع طرفاً إلا وبادرته من منطق "القوّة". وبات حالها الآن يُرثى له. تجاهلت أنّ أصل "قوّتها" هو في حليفها وعلاقتها معه التي قامت على معادلة: تغطية السلاح مقابل السلطة. التزم الطرفان جوهر الاتفاق، لكن ما استجدّ في السياق كان فوق قدرتها وادّعاءاتها.
الحزب الذي "يحاور" الجميع
لا شيء عند "العونيّة" راهناً إلا الصراخ والعتب والتعبير عن الأسى. عند "حزب الله" الكثير الكثير. هي شبه معزولة. هو قوّة إقليمية يُحاوره العالم أو يُخاصمه على هذا الأساس. الحروب التي أصلاها للجميع جعلت العونيّة رهينة محبسها. أدركت متأخّرة "سخافة" الادّعاءات في مواجهة وقائع البلد الصلبة. أمّا "حزب الله" فلديه الكثير ليفعله، لديه أكثر من طرف ليحاوره. في الأساس هو حاور الجميع. علاقاته ممتازة مع برّي، جيّدة مع وليد جنبلاط، ولا بأس بها مع "حزب الكتائب". أمّا مع "حزب القوات اللبنانية" فلم يتوقّف "الغزل السياسي" لا من باب التشابه الاجتماعي وكلاهما ريفيّ المعنى والمبنى، ولا من باب "نظافة الكفّ والأداء في الحكومات"... حتى "قوى التغيير" زارت حارة حريك وحاورت رئيس "كتلة الوفاء للمقاومة" محمد رعد. والنشطاء في الساحات تكفّل بهم نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم.
في هذه الأثناء نسيت "العونيّة" والقائمون عليها أنّ "التحكّم" وادّعاء "التفوّق" قاتِلان في بلد مثل لبنان. فاتها ما حصل مع كمال جنبلاط ومع الحركة الوطنية برمّتها. هكذا انتهى بشير الجميّل و"الجبهة اللبنانية". وعلى شيء من هذا اغتالوا رفيق الحريري خوفاً من تنامي ظلّه خارجياً وداخلياً. نسيت "العونية" أيضاً أنّ فرنسا لم تعد أمّاً حنوناً وتحوّلت إلى وسيط بين المجتمع الدولي و"حزب الله"، والفاتيكان منذ زمن بعيد صارت "الحريريّة" ضيفةً مُفضّلةً لديه. زار رأس الكنيسة الكاثوليكية المنطقة العربية أربع مرّات منذ عام 2017 من دون مرافقة رأس الكنيسة المارونية. تبدّلت الأمور كثيراً و"العونيّة" ما تزال تُقيم في زمن آخر. الحزب في هذا الوقت كان يحالف الأضداد في الداخل، ويحاور غيرها في الخارج.
شهدت العلاقة بين التيّار والحزب اهتزازات عدّة على مدى السنوات التي تلت تفاهم "مار مخايل". وكانت قمّة الاختلالات لحظة تشكيل حكومة نجيب ميقاتي الأخيرة. رفض باسيل الأمر، لكنّ الحزب أتى به. ردّ الأول برفض التسمية وبعدم إعطاء الثقة. حينئذٍ أعلن باسيل "عدم الثقة" بإدارة الحزب للملفّات الداخلية. وراح يتحدّث عن اتفاق على الاستراتيجية واختلاف في اليوميّات. كان خلافهما الحكومي بدأ قبل ذلك بقليل عندما حاول الحزب إعادة سعد الحريري إلى رئاسة الوزراء بعد اندلاع ثورة 17 تشرين. لكن في المضمون كان باسيل يستدرج عروضاً لنيل "وعد" بترئيسه، وهذا ما أحجم عنه نصر الله وذهب إلى تثبيت ميقاتي.
ماضٍ متوتّر ومستقبل بلا أفق
ثبّت "حزب الله" وقائع سياسية كثيرة ومُتشعّبة ليروّض جبران باسيل علّ الأخير يُخفض سقف توقّعاته وطموحاته الاستئثارية. لكنّ شيئاً من هذا لم يضبط رئيس "التيار الوطني الحر"، وخصوصاً اندفاعاته المذهبية والطائفية. أكثر من ذلك فقد ظنّ أنّ الحزب لا يعرف ماذا يفعل في قطر وأنّه جعلها ملجأه المستجدّ.
يُغفل باسيل أنّ "حزب الله" كالقبائل لا ينسى ثأراً. فقد سكت مديداً عن تصريحات حملت "ودّاً" لإسرائيل قبل الترسيم البحري، وعن تهديدات "طلبت رأس نبيه برّي للكسر"، وعن إثارة توتّر في الجبل كاد يعيد الأمور إلى زمن الحرب الأهلية ذات قبرشمون.
برّر "الحزب" استيعابه للأمور بدعوى أنّ الرئيس ميشال عون هو "الضامن". هذا زمن انتهى ليلة 31 تشرين الأول، يوم صار عون "الرئيس السابق". لكن حتماً لم ينسَ نصرالله رفض باسيل لتمنّيه الشخصي بإعطاء الثقة لحكومة ميقاتي، ولا حتى التعاون لتشكيل أخرى قبل انتهاء ولاية العهد.
تبدّلت الأوزان والأحجام. المواقع هي الأخرى تغيّرت. ردُّ "حزب الله" على كلّ ما مضى بدأ غيثه بدعم الاجتماع الحكومي وحضور الوزير الأرمني "الملك". أفهم باسيل سرّاً وعلانية أنّه ليس مستعدّاً لمناقشة اسم أيّ مرشّح غير سليمان فرنجية. حتى إنّ مسؤولي الحزب في لقاءاتهم لا يجيبون على أيّ سؤال يتعلّق بمرشّح آخر.
في وضع كهذا، صار جبران باسيل أسير نصرالله وليس العكس. وما من شيء يوحي بالعكس من ذلك سوى "تسريبات" و"مطالعات إعلامية". فالرصيد السالب الذي راكمه باسيل مع الجميع وضدّهم، يجعل الجهد المطلوب من "العونيين" مُضاعفاً لكي لا يكونوا ضحايا "إحباط" صنعه رئيس تيّارهم.
للمرء أن يعاين علاقة نصر الله – باسيل على أنّها ماضٍ متوتّر، ومستقبل بلا أفق. ولباسيل أن يدرك أنّه ليس ميشال عون، الذي حفر عميقاً في الوعي المسيحي باعتباره أعلن الحرب على حافظ الأسد، وناضل 25 عاماً ضدّ الاحتلال السوري وعاد ليكتسح 70% من أصوات المسيحيين، فيما جبران حصل على 20% منهم فقط في ظلال عمّه، ولا تاريخ يُذكر له.
*نُشر على صفحة أساس-ميديا