مرّة جديدة أكّد النائب جبران باسيل تموضعه السياسي إلى جانب حزب الله والنظام السوري. فما أراده من مؤتمره الصحافي الأحد الماضي لم يكن أبداً محاولة للتنصّل من تحالفاته أو إبداء الإستعداد للإنقلاب عليها، بل على العكس تماماً فهو أكّد رغبته في توطيد هذه التحالفات ودفعها إلى الأمام. إذ لم تكن شكواه من سياسات حزب الله سوى محاولة من قبله لجعل هذه السياسات تصبّ في مصلحته على الدوام لا ظرفياً.
لذلك فإنّ باسيل ما زال يدور في الدائرة أو الدوامة نفسها. فهو يدرك أنّ الشروط الحالية لتحالفه مع الحزب قد تسبّب له خسارات سياسية وشعبية، وفي الوقت نفسه هو لا يملك القدرة على تحسين هذه الشروط لأنّه في موقع ضعف تجاه الحزب، ولاسيّما بعد فشل عهد الرئيس ميشال عون والذي جعله أكثر تمسّكاً بالحزب لأنّه لا يستطيع حمل الفشل لوحده.
فالتحوّل "الاستراتيجي" الذي أقامه التيار الوطني الحر بدءاً من العام 2005 وصولاً إلى توقيع ورقة التفاهم مع حزب الله، كان تحوّلاً نهائياً في مسيرته أو بالحدّ الأدنى شبه نهائي. لكن في مطلق الأحوال فإنّ التيّار لا يمكنه إجراء تحوّل ثانٍ بهذا الحجم أيّا تكن تذمّراته من سياسات الحزب.
وحتّى لو افترضنا أنّ باسيل أراد التخّلص من أعباء تحالفه مع حزب الله، فإلى أين يذهب؟ وهل يضمن الربح بعيداً عن الحزب؟
من الواضح أنّ لا خيارات لديه سوى التحالف مع الحزب اليوم وغداً وبعد غدٍ. خصوصاً أنّ السردية السياسية للتيار الوطني الحرّ بعد تفاهمه مع الحزب كانت بمثابة إنقلاب على سرديتّه التأسيسية. فهل يمكن توقّع أن ينقلب التيّار على انقلابه على نفسه؟ وأصلاً فإنّ باسيل وإن تذمّر من تعاطي الحزب معه فهو يحافظ على نقاط التلاقي السياسية و"الأيديولوجية" الأساسية معه، سواء بالحديث عن المشرقية وضرورة وضعها موضع التنفيذ انطلاقاً من دمشق، أو، على مستوى تكتيكي، بتبني مقاربة الحزب لأحداث الطيونة - عين الرمانة من خلال اتهام القوات اللبنانية بالسعي إلى الفتنة وتنفيذ أجندات خارجية. حتّى أنّه ذهب أبعد من الحزب في الهجوم على الدكتور سمير جعجع!
ولم يمنعه القدح بجعجع من الحديث عن إمكانية الوحدة المسيحية على غرار الوحدة الشيعية لكنّه يفضّل الوحدة الوطنية كما قال، وهو ما يظهر التّخبط الكبير في خطابه. لكن الأهم أنّ باسيل عندما يلوّح بورقة اللامركزية المالية الموسعة فهو يضمر أنّ هذا المطلب يمثّل إجماعاً مسيحياً يعبّر هو عنه. مع العلم أنّ تلويح باسيل بهذه الورقة الآن باعتبارها ورقة قوّة بيده يظهر مدى عجزه أمام الحزب، لأنّه يهدّد بما لا يملك. إذ أنّ مطلباً كهذا لكي يتحوّل إلى ورقة ضغط بوجه الحزب، كما يوحي باسيل، فهو يتطلّب إجماعاً أو شبه إجماع سياسي مسيحي حوله، بينما الواقع أنّ الحزبين المسيحيين الأكبر هما الآن في حالة عداء شديد وهو ما عبّر عنه باسيل الأحد.
لذلك فإنّ باسيل قد استهلك تهويله بطرح تعديلات دستورية، لأنّه ببساطة لا يستطيع الدفع باتجاه طرح هذه التعديلات إلّا إذا أراد الحزب ذلك. فكيف يمكنه طرح تعديلات دستورية بهدف الضغط على الحزب بينما يملك الأخير مفتاح البحث في النظام السياسي؟!
لكن كما عادته يحاول جبران باسيل أن يختزل موقف المسيحيين بموقف تياره. وهنا مكمن الخطر على المسيحيين من باسيل الذي يطرح مستقبل المسيحيين السياسي والإجتماعي - الاقتصادي في بزار تكتيكاته السياسية، لكن أيضاً من الأحزاب المسيحية المناوئة لباسيل والتي تردّ عليه وفقاً لتكتيكاتها السياسية هي أيضاً، من دون أن يكون ردّها منهجياً ومتصّلاً بالسّردية الرئيسية التي يحاول باسيل أن يكرسّها في الوسط المسيحي.
وهي سردية ما عادت مفاعيلها أو آليات الردّ عليها مقتصرة على السياسية فقط. إذ أنّ "المجتمع المسيحي" بالمعنى العريض للكلمة مطالبٌ بتحديد موقفه من خطاب باسيل الذي يعلن انتمائه لتحالف الأقليات إلى جانب نظام بشار الأسد وحزب الله، تحت مسمّى جديد هو المشرقية. هل هذا ما تريده الغالبية المسيحية اللبنانية؟ وهل هذا ما ناضل في سبيله المسيحيون اللبنانيون؟
الجواب ليس في صناديق الإقتراع. إنّه قبل ذلك في رفع سقف الخطاب السياسي للمسيحيين إلى مستوى خياراتهم في لبنان والمنطقة وخوض المعركة الانتخابية تحت هذا السقف. لكن من يطلق هذا التحدّي؟!