للأحد الثاني على التوالي كرّر البطريرك بشارة الراعي نداءه إلى الأسرة الدولية لإعلان حياد لبنان. فأعاد وضع ندائه في سياقين مترابطين: سياق آني متّصل بمقتضيات "حماية لبنان ورسالته من التطورات السياسية والعسكرية في المنطقة ومن أجل تجنّب الانخراط في المحاور والصراعات الاقليمية والدولية". ثمّ في سياق تاريخي بقوله إنّه يفعل ذلك "بالأمانة لرسالة هذا الصرح البطريركي"، وهو ما يضفي شرعية تاريخية على موقفه.
صحيح أنّ البطريرك السابع والسعبين خاطب "الأسرتين العربية والدولية" في خطابه لكنّه خاطب رعيته أيضاً. تلك الرعية التي كانت على حال في 1920 و1943 وأضحت على حال أخرى اليوم، لا بفعل التطوّرات السياسية والتغيّرات الديموغرافية والاقتصادية الاجتماعية التي شهدها لبنان منذ ذلك الحين وحسب، بل بفعل بروز "ثقافة سياسية جديدة" في أوساط المسيحيين ليس حياد لبنان أساسياً بالنسبة إليها وإلا لما كانت برّرت قتال حزب "حليف خارج" الحدود بحجّة أنّه يحمي بقتاله هناك "مسيحيي جونيه". ولما كانت نظّرت لـ "سوق مشرقية"، وهي نظريّة سياسية في الأساس تعكس الخط البياني للسياسة الخارجية للبنان منذ أن استطاع "حزب الله" وحلفاؤه بسط نفوذهم فيه وخصوصاً بعد التسوية الرئاسية في العام 2016.
لقد قال البطريرك الراعي ما لم تقله القيادات الرئيسية للموارنة والمعارضة لسياسات العهد والوزير جبران باسيل. فخلاصة قوله إنّ لدى المسيحيين في لبنان رأياً آخراً وموقفاً مختلفاً. وليس قول بطريرك الموارنة أمراً يمكن تجاهله في نهاية المطاف ولذلك فهو أرسى توازناً سياسياً كان مفقوداً طيلة الفترة الماضية، سواء بين المسيحيين حيث كان خطاب العهد الأعلى، أو على الساحة الوطنية حيث كان صوت حزب الله وحلفائه الأقوى. فحتّى وإن كانت هناك أحزاب رئيسية معارضة للعهد فهي ما استطاعت، ولم ترِد، طيلة الفترة الماضية إرساء خطٍ مستقلٍّ عنه خصوصاً أنّ أكبر هذه الأحزاب أي "القوات اللبنانية" كان شريكاً في إيصال العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا. كما أنّه اشترك مع "التيار الوطني الحر" في انتاج سرديّة سياسية مسيحية شبه موحدة منذ القانون الأرثوذكس ثمّ عند توقيع اتفاق معراب في كانون الثاني 2016.
إذاّ أهمّية "نداء 5 تموز" هي في تكريسه معادلة سياسيّة مسيحية ووطنية جديدة، قوامها أنّ المسيحيين اللبنانيين ليسوا كلّهم في خط سياسي واحد هو خط العهد المتحالف مع "حزب الله" والداعي إلى "التوجه شرقاً". وبذلك يكون البطريرك الراعي قد خيّر القيادات المسيحية بين خطيّن: خطّ بكركي التاريخي الذي ينادي بالتزام لبنان "قرارات الشرعية الدولية والإجماع العربي" وخطّ العهد الذي اختار إطاراً استراتيجياً مختلفاً لسياسته و"غريباً" عن تاريخ الموارنة.
والحال فإنّ الأسبوع الماضي كان بمثابة فترة سماح للأحزاب المسيحية المعارضة للعهد التي وإن تفاعلت مع نداء بكركي الأوّل فهي فعلت ذلك بوتيرة أقرب إلى "رفع العتب" ولم يظهر من حركتها السياسية والإعلامية أنّ موقف الراعي يدفعها لإجراء تحوّل في خطابها. أمّا بعد تكرار الراعي نداءه للأحد الثاني على التوالي فإنّ تلك الأحزاب باتت مضطرة على الاختيار بين الخطين: خط العهد وخط بكركي، وإلّا فهي تحكم على نفسها بالاعدام سياسياً.
ثمّ هل يستطيع العهد وبالتحديد جبران باسيل الذي يسعى لتعزيز مستقبله السياسي أن يتجاهلا "نداء الحياد"؟ فعندما عارض "التيار الوطني الحر" مواقف البطريرك نصرالله صفير السيادية ما كان لبنان واقعاً تحت "الحصار المالي والعقوبات التي يتأثر بها القطاع المصرفي"، كما قال الرئيس عون في تشرين الأول 2019. أي أنّ تبعات سياسات "حزب الله" الداخلية والخارجية ما كانت ظاهرة وقت صفير كما هي الآن بفعل تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية إلى حدود جعلت أعضاء من "التيار الوطني الحر" يندّدون بتلك السياسات. أمّا الآن فمواقف بكركي لا شكّ أنّها تلقى صدى واسعا جدا في أوساط المسيحيين الذين أحسّوا هذه المرة بعمق الأزمة التي باتت تتهدّد على نحو جدّي مؤسساتهم التربوية والصحيّة فضلاً عن لقمة عيشهم.
لقد حاول جبران باسيل طيلة الفترة الماضية الموازنة بين "الاتجاه شرقاً" وعدم "إدارة الظهر للغرب"، لكن الآن مع إطلاق الراعي نداءه باتت هذه الموازنة صعبة جداً لا بل مستحيلة من الناحية السياسيّة. فأي الأمرين يختار؟ وماذا ستفعل القيادات المسيحيّة الأخرى؟