قبل أن تقتله أجهزة استخبارات النظام السوري ببيروت في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية، كتب الصحافي سليم اللوزي مقالاً عنوانه: "إذا كان لبنان للموارنة فهناك مسلم ومسيحي. أمّا إذا كان الموارنة للبنان فكلّنا موارنة". حاول اللوزي في ذاك المقال "التمثيل على حال النظام السياسي اللبناني"، أي على التباس ما عُرِفَ بصيغة 43، نسبة إلى الميثاق الوطني غير المكتوب بين المسيحيّين ممثَّلين ببشارة الخوري، والمسلمين ممثَّلين برياض الصلح الصيداوي والعاملي (نسبة إلى جبل عامل).
المارونيّة السياسيّة والرئاسة
بموجب هذه الصيغة أو التسوية تخلّى المسيحيون عن تعلّقهم بالانتداب الفرنسي، مقابل تخلّي المسلمين عن رغبتهم في الوحدة مع سوريا. وطالب الطرفان معاً باستقلال لبنان وتطبيق شعار الحكومة الصلحيّة (نسبة إلى رياض الصلح): "إخواننا في الأقطار العربية لا يريدون للبنان إلا ما يريده أبناؤه الأباة الوطنيون. ونحن لا نريده للاستعمار مستقرّاً، وهم لا يريدونه للاستعمار إليهم ممرّاً". لكن في المحصّلة كانت الغلبة في تلك الصيغة لِما سُمّي "المارونية السياسية"، لأنّ لبنان في بداياته نشأ ضمناً على "مقاس طائفة من اللبنانيين". أمّا المارونية السياسية فطالما ربطها بعضهم برئاسة الجمهورية وامتيازاتها القائمة منذ إنشاء دولة لبنان الكبير قبل 100 عام ونيّف، وقبلها في متصرفيّة جبل لبنان.
الرئيس بشارة الخوري أوّلَ رئيس جمهورية استقلاليّ، يمكن أن نستنبط من تجربته مآل النظرة إلى الرئاسة، وجموح المواقف والتدخّلات الخارجية وصناعتها رؤساء الجمهورية، وأدوار الجماعات اللبنانية في ممارسة كيديّاتها وضغائنها. في عام 1931، كانت الولاية المجدَّدة لرئيس الجمهورية الأوّل شارل دبّاس (الأرثوذكسي) تقترب من نهايتها (كانت مدّة الولاية الرئاسية أو العهد 3 سنوات). وكان واضحاً أنّ المنافسة محتدمة بين بشارة الخوري وإميل إدّه المقرّب من الانتداب الفرنسي.
بين إدّه والخوري
ترشّح الخوري بموافقة دوائر الانتداب. أدرك إميل إدّه (كان يزدري دور المسلمين في لبنان) أن لا أمل له بالرئاسة، فهمس إلى الشيخ محمد الجسر، رئيس مجلس النواب، أن يرشّح نفسه لها، ووعده بدعمه ومنحه صوته وأصوات الذين يماشونه في المجلس. كانت تلك المرّة الأولى التي يترشّح فيها مسلم لرئاسة الجمهورية اللبنانية. لكنّ الرئاسة في زمن الفرنسيين ظلّت "لزوم ما لا يلزم": شخصيّات تُعيّن وتقوم بدورها المنسجم مع تطلّعات المندوب السامي وأوامره.
بعد رئاسة الدبّاس استمرّت المعارك الرئاسية على المنوال نفسه حتى معركة انتخابات عام 1943 الرئاسية التي انحصرت فيها المنافسة بين الخوري وإدّه. كانت المناورات على أشدّها بين اللاعبين اللبنانيين، وبين النفوذين البريطاني والفرنسي. وكان واضحاً أنّ كفّة بشارة الخوري راجحة على كفّة إميل إدّه بسبب نشاط الجنرال البريطاني إدوارد سبيرز المتزايد وتضاؤل النفوذ الفرنسي يوماً بعد يوم.
حكمة بشارة الخوري
لم يصل بشارة الخوري إلى رئاسة الجمهورية من فراغ. فهو من النادي السياسي التقليدي، وقد أثبت جدارة في المناصب التشريعية والوزارية التي تولّاها. كان شريكاً للرئيس رياض الصلح في الميثاق الوطني الذي أُبرم سنة 1943، والذي عمل على إكمال وتصحيح الدستور بشأن المسائل الأساسيّة المتعلّقة بهويّة لبنان، وبعلاقاته العربيّة والدوليّة، وبدمج المسلمين في هيكليّة السلطة، وأكّد صيغةَ تقاسم السلطة بين الطوائف بنسبة 5/6 في التمثيل السياسيّ والإداريّ، وتوزيع المناصب الرئيسة الثلاثة في الدولة بين رئيس الجمهوريّة المارونيّ، ورئيس مجلس النوّاب الشيعيّ، ورئيس الوزراء السنّيّ. والحال أنّ بشارة الخوري أدرك أنّ رئاسته لن تكون مستقرّة إلّا في حال تعاونه مع الشريك المسلم والانفتاح على المحيط العربي، وهذا على خلاف إميل إدّه الانعزالي الذي كان يُطلق مواقف متناقضة تجاه المسلمين، فمرّة يرشّح مسلماً للرئاسة ومرّة يقول "فليذهب المسلمون إلى مكّة"، على اعتبار أنّ لبنان وطن المسيحيين.
في عهد بشارة الخوري دخل لبنان صداماً خارجياً، وكان ذلك في فلسطين عند إعلان قيام "دولة إسرائيل" سنة 1948، وصداماً داخلياً بسبب تمرّد القوميين السوريين وإعدام أنطون سعادة، هذا عدا الفساد والمحسوبيّات اللذين وجدا أرضاً خصبة في النظام اللبناني التحاصصيّ.
في تشرين الثاني 1947، وافق مجلس النواب السوري في دمشق على تعديل المادة 68 من الدستور السوري، وعلى السماح لشكري القوّتلي بولاية دستورية ثانية، فأُعيد انتخابه رئيساً في 18 نيسان 1948. وفي لبنان حصل الخوري على توقيع 46 نائباً لتكرار التجربة السورية في بيروت، وأُعيد انتخابه رئيساً للجمهورية. ولم يكن التجديد لبشارة الخوري بمنأى من الدعم السوري.
فلسطين والانقلابات العسكريّة
لكن بعد إطاحة الضابط حسني الزعيم بشكري القوّتلي في 29 آذار 1949، تخوّف بشارة الخوري، ذلك أنّ ما كان يحصل في الشرق الأوسط من غرسٍ للكيان الإسرائيلي في فلسطين بدأ يفعل فعله الشديد السوء: انقلابات عسكرية على الحكم البرلماني المدني والديمقراطي على الرغم من ضعفه. وتوالت تلك الانقلابات بالعدوى في كلّ من سوريا ومصر والعراق، ولاحقاً في بلدان أخرى.
من جهته، زَعَم حسني الزعيم، مثل سواه من الانقلابيين العسكريين، أنّه انقلب على الطبقة السياسية بسبب هزيمة الجيوش العربية في فلسطين سنة 1948 التي سُمّيت "النكبة". وقد توهّم أنطون سعادة، زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، مثل الضباط العسكريين، أنّ الاستيلاء على السلطة في لبنان يمكن تحقيقه على طريقة حسني الزعيم، فأعدّ لذلك على نحو شبه كاريكاتوري. لكنّ المنطقة كلّها دخلت مخاضاً جديداً عسيراً تتنازعه متاهة من العواصف والرياح: تشريد الفلسطينيين وشتاتهم، وشبح إسرائيل التوسّعية والاستيطانية والعنصرية، وأشباح العسكريين المتغوّلين إلى السلطة، إلى جانب عداء بعضهم للمدينة وحياتها.
رفض الرئيس بشارة الخوري الاعتراف بشرعية حسني الزعيم، وتمسّك بالرئيس القوّتلي باعتباره يمثّل الشرعية السورية. ولم يعترف الخوري بالزعيم إلّا بعد تمرير الأخير صفقة تسليم أنطون سعادة إلى السلطات اللبنانية بعد محاولته الانقلابية الكاريكاتورية الفاشلة، وفراره إلى سوريا.
إعدام أنطون سعادة
يشوب هذه القضيةَ الكثيرُ من الالتباس والغموض والجدال. في مذكّراته يقول الخوري إنّه لم يكن على علم بالصفقة التي أدّت إلى تسليم سعادة إلى السلطات اللبنانية، وأنّه أُخبر بها بعد عبور الأخير الحدود من سوريا إلى لبنان. فوراً توجّه إلى منزل رياض الصلح، وسمع منه أنّ الزعيم طلب من لبنان إعدام سعادة قبل وصوله إلى بيروت.
هناك روايات للحزب السوري القومي تحدّثت عن خيانات في تسليم سعادة. وما كشفت عنه وثائق الدولة اللبنانية فيما بعد عن ملابسات إعدام سعادة ذهب إلى أنّ الرئيس بشارة الخوري دعا إلى اجتماع حضره الرئيس رياض الصلح والأمير فريد شهاب، إضافة إلى حبيب أبي شهلا وغبريال المر، وهما مسؤولان بارزان من الطائفة الأرثوذكسية نفسها التي ينتمي إليها سعادة. ووفقاً لملاحظة دوّنها الأمير فريد شهاب، قال الرئيس رياض الصلح إنّه لا يحبّ الإعدام. ولاذ الرئيس الخوري بالصمت. لكنّ أبي شهلا والمر أيّدا إعدامه.
الثورة البيضاء
لم يدُم حكم حسني الزعيم الانقلابي طويلاً. لقد انقلب عليه ضباط الجيش وقاموا بإعدامه في 14 آب 1949. أمّا بشارة الخوري، فقد كبرت المعارضة ضدّه داخل لبنان، على خلفيّة سابقة التجديد الأولى، التي غالباً ما سعى إليها الرؤساء اللبنانيون الآخرون. وجدت المعارضة الكثير من الأسباب للمطالبة بإسقاط عهد بشارة الخوري في الشارع تحت مسمّى "الثورة البيضاء". ومن تلك الأسباب: تعديله الدستور، وتزويره الانتخابات النيابية، إضافة إلى الفساد المالي والإداري في عهده. وقد توسّلت الثورة البيضاء مطالب معيشية كثيرة، كالغلاء في أسعار الطاقة الكهربائية وسواها. وهي لم تنجح في عزل بشارة الخوري عن سدّة الرئاسة، إلا بعدما تصدّرها كميل شمعون وكمال جنبلاط وحميد فرنجية وغسان تويني وعبدالله الحاج. وقد أيّدها الحزب السوري القومي الاجتماعي، الناقم على الخوري بسبب إعدام سعادة.
منذ إعدام سعادة انفتح باب الشرّ على بشارة الخوري، فهو فَقَد شريكه السنّيّ رياض الصلح الذي اغتيل على يد القوميين السوريين في الأردن في 16 تموز 1951. أمّا صديقه شكري القوّتلي فكان منفيّاً في مصر منذ عام 1949. وفي مصر كان الملك فاروق يترنّح، ويعود شطرٌ من ترنُّحه إلى نكبة 1948. وفي تموز 1952 أطاحه انقلاب الضبّاط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر، الملهم الشعبوي للقومية العربية الجماهيرية الحديثة. أمّا في السعودية فكان الملك عبد العزيز بن سعود، صديق الرئيس الخوري، غائباً في مرضه.
هكذا وجد بشارة الخوري نفسه منفرداً ووحيداً في مواجهة خصومه الداخليين. لذا اضطرّ إلى التنازل عن منصبه في أيلول 1952 قبل أن تنتهي ولايته المجدّدة.
غداً: شمعون: فتى العروبة... الذي خانها مع الغرب
المصادر:
- باتريك سيل "رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي"، الدار العربية للعلوم.
- بشارة الخوري، حقائق لبنانية، الناشر: أوراق لبنانية.
- يوسف سالم، "50 سنة مع الناس"، دار النهار.
- فوّاز طرابلسي، تاريخ لبنان الحديث من الإمارة إلى اتفاق الطائف، دار رياض الريس.
ـ سهيل القش، "تشظّي الكيان اللبناني"، دار رياض الريس.
*نُشر على صفحة أساس-ميديا