ما إن استدعي رئيس "القوات اللبنانية" سمير جعجع لـ"سماع إفادته حول قضية أحداث الطيّونة – الشياح – عين الرمانة" في وزارة الدفاع حتّى استعيدت حقبة تفجير سيدة النجاة في الذوق في 27 شباط 1994 وما شهدته من اتهامات للقوات أدّت إلى حلّ الحزب والحكم على رئيسه.
استعادة بدايات حكم نظام الوصاية السورية للبنان تدفع باتجاهها معطيات عدّة أهمّها الظرف السياسي الذي وقعت في ظلّه أحداث 14 تشرين الأول وكذلك الجهة المستدعية لجعجع فضلاً عن طريقة استدعائه.
وقبل الدخول في نقاط التشابه والإختلاف السياسية بين اليوم ومطلع التسعينيات هناك متغيّر أساسي بين الزمنين يتمثّل في أنّ الأحداث صُوّرت بالهواتف الذكية واطّلّع اللبنانيون عليها بالتفصيل وشاهدوا كيف دخل "المتظاهرون" إلى أحياء عين الرمانة وبدأوا بترداد الشعارات المذهبية وبالسباب والتكسير. بالتالي فإنّ هذه المعاينة العمومية لمجرى الأحداث خلقت لوحدها رأياً عاماً لبنانياً على بيّنة ممّا حصل في منطقة الأحداث، وهو ما يستحيل دحضه.
بالعودة إلى مطلع التسعينيات فإنّ المحطة السياسية الرئيسية وقتذاك كانت الانتخابات النيابية عام 1992 أي قبل عامين على تفجير سيّدة النجاة. شهدت تلك الانتخابات مقاطعة مسيحية استثنائية بقيادة البطريرك نصرالله صفير فوصل النواب المسيحيون إلى البرلمان بأصوات عائلاتهم الصغيرة تقريباً. وبذلك استطاعت سلطة الوصاية السورية أن تضمن ولاء المجلس النيابي وبالتالي ولاء السلطة بأكملها.
عليه كرسّت الوصاية السورية معادلة قوامها: إمّا أن تكون موالياً لها وتقبل بشروطها للتسوية فتدخل جنّة الحكم وإمّا أنّ تعارض أو تحاول تحسين شروطك فتستبعد بشتّى الطرق ومنها القضائية. صحيحٌ أنّ الكثير من تفاصيل تلك المرحلة لم يكشف بعد ولاسيّما لجهة "الإنقلاب" على القوات اللبنانية التي كانت جزءاً من الحكومة الأولى بعد توقيع اتفاق الطائف. لكنّ الأكيد أنّ القوّات تعرّضت لاستهداف سياسي مرتبط بالمصلحة السياسية لنظام الوصاية خصوصاً أنّ موازين القوى كانت بيده بحكم التقاطعات الدولية والإقليمية المستجدة إثر انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الأولى.
الآن تحاول طهران عبر أهمّ أذرعها في المنطقة أي حزب الله الإمساك بقيود السلطة اللبنانية، ولا شكّ أنّ الانتخابات النيابية المقبلة والمقررة مبدئياً في 27 آذار هي محطّة مفصلية بالنسبة لطهران والحزب للمزيد من تكريس نفوذهما في لبنان وخصوصاً أنّ المجلس الجديد في حال اجريت الانتخابات سينتخب رئيساً جديداً للجمهورية. والطرفان أي إيران والحزب حققا مكاسب ضخمة من وراء انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وبالتالي فهما يريدان بقوّة ضمان وصول خلف له موالٍ لهما، وأمّا ولاء الحكومة فيصبح وقتذاك تحصيلاً حاصلاً.
إذّاك فإنّ نقطة التشابه السياسي بين 1994 و2021 تكمن في سعي نظامي الوصاية الإحتلالية إلى تكريس نفوذهما في البلد بصورة مطلقة، وبالتالي فإنّ أولويتهما تتماثل في ضمان ولاء كلّ المؤسسات الدستورية وفي مقدّمتها البرلمان. ولذلك لا يمكن عزل أحداث عين الرمانة وما تلاها من تعبئة سياسية وإعلامية من جانب حزب الله عن استراتيجيته لخلق وقائع سياسيّة وشعبية مؤاتية له لخوض الإنتخابات النيابية تمهيداً لانتخاب رئيس جديد موالٍ له.
لذلك تُعطي التفاصيل الإجرائية والسياسية لاستدعاء جعجع صورة مسبقة عمّا يمكن أن تكون عليه الأمور في حال خَسر الحزب مع حليفه التيار الوطني الحر الغالبية النيابية، لاسيّما أنّ لا شيء يمنع تكرار المشهد العراقي في لبنان لناحية اعتراض القوى الحليفة لإيران على نتائج الانتخابات واعتبارها مفبركة والضغط على مفوضية الانتخابات لإعادة فرز الأصوات.
لكن الفرق بين العراق ولبنان أنّ رئيس الحكومة العراقي ليس طرفاً في المعادلة السياسيّة كما هو الرئيس عون. وهو ما يحيل إلى فارق أساسي بين 1994 و2021 وهو تموضع التيار الوطني الحر إلى جانب نظام الإحتلال الإيراني بينما كان أحد معارضي نظام الوصاية السورية، مع فارق أن مسيحيي نظام الوصاية السابق كانوا فاقدين للتمثيل الشعبي بينما التيار الآن يتمتّع بتأييد شعبي ستعكس الإنتخابات المقبلة حقيقته وسط حديث كوادره أنفسهم عن تراجعه، وهذا سببٌ رئيسي في تعبئة الحزب والتيار ضدّ القوات. لكن ثمّة سؤال عمّا ستفعله القوات إزاء الضغط عليها، هل تدفع باتجاه خلق معطيات سياسية جديدة تكون لها مفاعيل مقاطعة العام 1992 كحدث تأسيسي لمعارضة نظام الوصاية السورية، أم تبقى تتحرّك تحت سقف الستاتيكو السياسي القائم؟