ماذا ينتظر لبنان بعد احتواء فيروس "كورونا"؟ هذا هو السؤال الأساسي راهناً بعدما أشّرت المعطيات الاقتصادية خلال "التعبئة العامة" إلى حجم الكارثة التي تنتظر اللبنانيين في الأيام والأسابيع المقبلة، في ظلّ الإحتقان الاجتماعي من جرّاء ضيق حال الناس، والذي يفاقمه احتجاز المصارف مدخّراتهم، وأمّا إذا حرّرتها فبسقوف محددّة وبالليرة اللبنانية، أي بأقلّ من قيمتها الفعلية في ظلّ التراجع الحاد والمتواصل في قيمة العملة الوطنية.
كلّ ذلك يدفع الى اليقين أنّ لبنان لم يسبق أن عرف أزمة متعدّدة الأوجه بهذا الحجم؛ فمن جهة هناك الأعطاب الخطيرة في المالية العامة، ومن جهة أخرى هناك الأزمة المصرفية المتفاقمة والتي تنذر بالأسوأ، ومن جهة ثالثة ثمّة مشكلة سياسية مقيمة تتمثّل بازدواجية السلطة بين المؤسسات الدستورية و"حزب الله". وقد بلغ هذا العطب السياسي العميق والراسخ ذروته مع الأزمة الحالية، بعد أن كانت انعكاسته السياسية والاقتصادية قد بدأت بالظهور منذ اغتيال رفيق الحريري في أعقاب الإجتياح الأميركي للعراق الذي قلب المعادلة الجيوساسية في المنطقة ووضع لبنان، تالياً، أمام مأزق السلطتين: سلطة الدولة التي تسعى إلى أنّ تخاطب العالم ويخاطبها، وسلطة "حزب الله" التي تصارع العالم ويصارعها. وتدريجاً غرق لبنان في هذا التناقض الذّي أفقده أي مظلّة دولية وعربية يمكن أن تفرمل مسيرة تداعيه الاقتصادي والمالي، في وقت انقطعت به سبل الانقاذ المحلية وبات أكثر من أي وقت مضى أمام احتمال عودة الإختلالات الأمنية ولأسباب اجتماعية هذه المرّة على وقع العوز.
أمام هذا الواقع الصعب، لا يقدر أحدٌ في الحكم على القول: "الحلّ في يدي"؛ وهو ما يفسّر تكرار أركان التحالف الحاكم، ولاسيماً رئيسا الجمهورية والحكومة فضلاً عن شخصيات "حزب الله"، مقولة أنّ ما وصلنا إليه هو نتيجة سياسات الثلاثين سنة الماضية. أيّ أنّهم، وعوض أن يقدّموا الحلول، يحمّلون آخرين المسؤولية عن المشكلات الواقعة؛ وحّتى إذا أخذنا بهذه المقولة، فإنّ أحداً لا يمكنه الإنكار أنّ رئيس مجلس النواب، أحد ثلاثي التحالف الحكومي، هو في منصبه منذ العام 1992، كذلك فإنّ "التيار الوطني الحر" و"حزب الله" شاركا في جميع حكومات ما بعد العام 2005، لا بل أنّهما شكّلا مع حلفائهما حكومة "اللون الواحد" في العام 2011. وبالتالي، فإمّا أنّ هؤلاء كانوا شركاء في السياسات المالية والإقتصادية تلك، وإمّا أنّهم عجزوا عن تغييرها؛ وفي الحالتين فهم لم يفضحوا هذه السياسات ولم يسائلوا المسؤولين عنها، ولا هم رفضوا المشاركة في حكومات تستمر في انتهاجها؛ وإذا كان حاكم المصرف المركزي يمثّل رأس هذه السياسات، فلماذا لم يسائله أحد طيلة الفترة الماضية؟ ولماذا لم ينحَّ عن منصبه؟ وهل يمكن إقناع طفل في العاشرة أنّ تعاميم سلامة الأخيرة لا تحظى بتغطية سياسية من الفريق الحاكم، ناهيك بهندساته المالية الشهيرة والتي أمّن بعضها أرباحاً لمصارف بعض أركان الحكم. أمّا لجوء السلطة إلى التضحية بسلامة اليوم بعد التراجع الدراماتيكي في سعر الصرف فما هو سوى محاولة منها لامتصاص نقمة الشارع، وإزاحة المسؤولية، مرّة جديدة، عن كاهلها.
والحال هذه، فاللبنانيون، خصوصاً من هم خارج دوائر السلطة وأحزابها، يدفعون الآن ثمن ذنب لم يقترفوه، في وقت تقف السلطة عاجزة عن استنقاذ الوضع بأدوات محليّة، أمّا الأدوات الخارجية، ولاسيمّا "صندوق النقد الدولي"، فإنّ قرار الاستعانة بها فبيدِ "حزب الله" الذي يقلّب حساباته المحلية على نار السياسات الإيرانية المأزومة، سواء في طهران حيث الضائقة الاقتصادية، أو في بغداد حيث تلقت الجمهورية الإسلامية ضربة سياسية وعسكرية ومعنوية موجعة باغتيال قاسم سليماني، أو في دمشق التي تختلط الأوراق الدولية حيالها؛ وها هي الطائرات الإسرائيلية تقصف مواقع ايرانية في تدمر خلال زيارة وزير الخارجية الإيراني دمشق، بعدما كانت طائرة إسرائيلية من دون تيار قد استهدفت منذ أسبوع سيارة للحزب على الحدود اللبنانية السورية تزامناً مع تحليق مكثّف لطائرات الاستطلاع فوق بيروت والضواحي من دون يرتفع صوت ضدّها.
إذّاك، كيف ستكون الموجة الثانية من الإنتفاضة؟ وماذا سيكون موقف "حزب الله" الذي حقّق مكاسب سياسية كبيرة منذ التسوية الرئاسية في العام 2016، وإذا بالدولة تفلس والشعب أمام ضائقة إقتصادية غير مسبوقة؟ الإجابة عن هذين السؤالين ستحدّد إلى حدّ بعيد سمات المرحلة المقبلة؛ لكن من يمتلك جواباً الآن؟ لا أحد!