مساران داخليان يتحكمان بالزمن اللبناني الحالي؛ مسار الإزمة السياسيّة المتزامنة مع الإنهيار الإقتصادي المتفاقم، ومسار الإنتخابات النيابية المفترض إجراؤها في المهلة الدستورية المحدّدة بين شهري آذار وأيّار المقبلين.
تزامن هذين المسارين هو بحدّ ذاته دليل إلى إختلال الأوضاع في لبنان. فالتحضير للإنتخابات يجري وكأنّ الإنتظام في الإدارة والإقتصاد والحياة السياسيّة هو سيّد الموقف. وكأن احترام الإستحقاقات الدستورية هو علامة لبنانية فارقة في أوقات الأزمات كما في الأوقات العادية. وكأنّ السلطة السياسية مضرب مثل حول العالم في الشفافية وعدم صرف النفوذ واستغلال أدوات الدولة لتحقيق مكاسب سياسيّة وإنتخابية. وقبل ذلك كلّه فإنّ إنكباب الأحزاب والقوى والمجموعات على التحضير للإنتخابات يحصل وكأنّ القضاء اللبناني الذي سيشرف على هذه الإنتخابات ويصادق على النتائج وينظر في الطعون سليم ومتعافِ وقادرٌ على القيام بدوره على أكمل وجه من دون تدخّل من قبل السلطة السياسية الحريصة على استقلال القضاء حرصاً منقطع النظير!!
كلّ شيء على ما يرام في الدولة اللبنانية ولا داعٍ للهلع، ولا ينقص إلّا أن يطلّ حاكم مصرف لبنان ويبّشر اللبنانيين بأنّ الليرة بألف خير!
حقّاً إنّه لأمر عجيب غريب أن يدخل البلد زمن الإنتخابات على وقع انهيار اقتصادي وخراب اجتماعي غير مسبوقين دفعا ثلثي اللبنانيين إلى عتبة الفقر بحسب أرقام المنظمات الدولة، وبالرغم من ذلك فإنّ الأحزاب والقوى والجمعيات تتصرّف وكأن شيئاً لم يحصل؛ أكثر من ذلك فهي توحي بأنّ الانتخابات هي مدخل التغيير وهي الردّ المناسب على سياسات السلطة وهي السبيل الوحيد لمحاسبتها عبر صناديق الإقتراع.
لكن في المقابل فإنّ كل هذه الأحزاب والقوى والجمعيات سلمّت مسبقاً بإدارة هذه السلطة للعملية الإنتخابية وكأنّه لا توجد أدنى شكوك في نزاهتها وحيادها الإنتخابي. هذا فضلاً عن أنّ الطرف الأقوى في هذه السلطة أي حزب الله توعّد اللبنانيين إذا ما حُوّلت هذه الإنتخابات وسيلة لاستهدافه سياسياً من خلال إسقاط غالبيته النيابية.
وموقف الحزب هذا ليس سوى ترهيب مسبق للناخبين وتهديد بعدم قبول النتائج في حال أتت ضدّ مصلحته. وهل يسمح الحزب أصلاً بإجراء الانتخابات في حال تأكّد مسبقاً أنّ نتائجها لن تكون في مصلحته. بالتالي فإنّ مجرّد حصول الانتخابات يعني أنّ الحزب وحلفاءه وتحديداً التيار الوطني الحر يضمنان الفوز بالغالبية النيابية وإن تبدّلت حصّة أفرقائه في ظلّ الحديث عن تراجع شعبية التيار.
كلّ ذلك سببٌ إضافي إن لم يكن لمقاطعة هذه الإنتخابات فلخوضها بأعلى سقف سياسي ضدّ السلطة الحالية وعلى رأسها حزب الله، وإلّا فإنّ خوض القوى والأحزاب والمجموعات لهذه الإنتخابات بوصفها استحقاقاً إنتخابياً تقنياً بحت والكلمة فيه للحواصل والأصوات، هو تواطؤ ضمني مع هذه السلطة وبمثابة إعطاء صكّ براءة لها عمّا ارتكبته بحقّ اللبنانيين طيلة السنتين الماضييين. والأخطر من ذلك فإنّ خوض شرائح المعارضة لهذه الانتخابات بسقف سياسي منخفض، وتحديداً في ما يخصّ هيمنة حزب الله على الدولة، لا يمكن اعتباره سوى إعلان مسبق من قبلها لاستعدادها لمشاركة أركان السلطة الحاليون الحكم، وحتى لو كانت موازين القوى الناتجة عن هذه الإنتخابات لمصلحة هؤلاء.
أي بدل أن تكون هذه الإنتخابات محطّة لاستنهاض سياسي – شعبي قادر على إنتاج وسط سياسي مسؤول يعيد الاعتبار للبديهيات الوطنية والجمهورية بدءاً بسيادة الدولة على كامل أراضيها والفصل بين السلطات وتأمين المساواة بين اللبنانيين أمام القانون وفي الحقوق الإقتصادية والإجتماعية، بدلاً من ذلك كلّه فإنّه يخشى أن تكون هذه الانتخابات بمسارها الحالي محطّة إضافية لتعميق الاختلال الحاصل في مجمل الأوضاع اللبنانية؛ فبعد أنّ تمّ تدجين النقابات التي يفترض أن تشكّل الحلقة الأولى في الدفاع عن الحقوق الإجتماعية والإقتصادية للبنانيين، يخشى أنّ تكون الانتخابات المقبلة محطّة لتدجين الأحزاب والمجموعات لمجرّد قبولها بخفض سقف المعركة الإنتخابية إلى أدنى حدود ممكنة. وإذا كان مردّ ذلك إلى الخشية من تطيير الحزب وحلفائه للانتخابات في حال استشعروا خطورة المعركة السياسية عليهم فهذا سبب إضافي لتصعيد المعركة في وجههم لا لدفن الرؤوس في قوائم الحواصل الإنتخابية!