على الرغم من أنّ خبر وفاة الكاهن اللبناني يوسف سامي يوسف المقيم في الإمارات العربية المتحدة جراء إصابته بفيروس "كورونا" محزن في الأصل، إلّا أنّ دفنه في مدافن المسيحيين في جبل علي في الشارقة يعدّ حدثاً استثنائياً لأنّه أوّل كاهن مسيحي يدفن في شبه الجزيرة العربية في الحقبة الحديثة، مع ما يعنيه ذلك من تحوّلات جذريّة في العلاقة بين الأديان في هذه المنطقة التي هي مهد الإسلام.
والحال هذه، فإنّ دفن الأب يوسف في الإمارات حيث خدم متنقلاً بينها وبين البحرين وسلطنة عمّان، يأتي في سياق المشروع الذي أطلقته القيادة الجديدة في المملكة العربية السعودية للعودة إلى "الإسلام الوسطي والمعتدل والمنفتح على جميع الأديان"، كما قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، خلال "مبادرة مستقبل الاستثمار" التي انعقدت في الرياض أواخر تشرين الأول من العام 2017، وذلك للقطع مع "مشروع الصحوة" الذي انتشر في المنطقة بعد العام 1979.
ولعلّ المحطّة الأساسية في المشروع المذكور كانت الزيارة التاريخية التي قام بها البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى الممكلة العربية السعودية في تشرين الثاني من العام 2017، كأولّ رجل دين مسيحي بهذا المستوى يزور المملكة بدعوة رسميّة. وقد افتتح استقبال السعودية للراعي مساراً جديداً للتقارب بين الأديان والثقافات المختلفة لا في شبه الجزيرة العربية وحسب، بل على مستوى المنطقة العربية والعالم.
والجدير ذكره أنّ الزيارة المذكورة حصلت في توقيت بالغ الأهمية؛ فهي رسمت مشهداً مختلفاً عن مشاهد العنف التي كانت غالبة في المنطقة من جرّاء النزاعات والحروب. كما كانت بمثابة ردّ مباشر على مساعي شيطنة الإسلام التي بلغت أوجها وقتذاك بفعل إرهاب تنظيم "داعش" الذي تمدّد وصولاً إلى أوروبا، مع ما استتبع ذلك من نزعات إسلاموفوبية أشدّ راديكالية من ذي قبل، قابلتها السعودية، أرض الحرمين الشريفين، بالتأكيد على قيم الوسطية والاعتدال في الإسلام.
لقد أسّست زيارة بطريرك الموارنة إلى المملكة العربية السعودية لسلسلة لقاءات لمسؤولين سعوديين مع ممثلين لطوائف مسيحية أخرى. إذ التقى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في آذار من العام 2018 في لندن، رئيس أساقفة كانتربري جاستن ولبي. ثمّ وفي نيسان من العام نفسه استقبلت السعودية رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان في دولة الفاتيكان الكاردينال جان لويس توران في زيارة تاريخية استمرت لستة أيام، وكانت الأولى من نوعها لشخصية فاتيكانية كبيرة للمملكة، وقد استقبل العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز الضيف البابوي في قصر اليمامة بالرياض. واختتمت هذه الزيارة بتوقيع اتفاقية تعاون غير مسبوقة بين المملكة والفاتيكان، وتفاهم على عقد اجتماع حول موضوع يخص المجتمع كل ثلاث سنوات. وبذلك تكون هذه الزيارة، بتوقيتها وبرنامجها، قد بعثت برسالة إلى المجتمعات الغربية مفادها أنّ الصورة التي يحاول الإرهاب تعميمها عن الإسلام ليست صورته الحقيقية. كما حملت رسالة إلى شعوب المنطقة، مفادها أنّ خيار كل من السعودية والكرسي الرسولي هو تعزيز ثقافة السلام والحوار في المنطقة.
ولم يتوقّف هذا المسار الانفتاحي عند هذا الحد، ففي كانون الأوّل من العام 2018، رأس مطران في الكنيسة الأرثوذكسية المصرية قداسين في السعودية، بعدما كان الأمير محمد بن سلمان قد زار في آذار من العام نفسه الكاتدرائية المرقسية في القاهرة حيث التقى بابا الأقباط تواضروس الثاني.
ومن المؤكد أن مجمل هذه الخطوات قد مهدّت للزيارة التاريخية لبابا الفاتيكان فرنسيس إلى الإمارات في شباط 2019، التي توِّجت بإعلان "وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك"، والتي وقّع عليها كلّ من الحبر الأعظم وشيخ الأزهر الشيح أحمد الطيّب. ولا شكّ أنّ هذه الوثيقة بالغة الأهمية قد أسّست عملياً لحقبة جديدة في تاريخ العلاقات بين المسيحية والاسلام، إذ لم يعد في إمكان أي مسيحي أو مسلم أن يشكّك في قابلية وقدرة هاتين الديانتين على التلاقي على مبادئ العيش المشترك والسلام الإنساني. كما انبثقت عن هذه الوثيقة "لجنة عليا للأخوة الانسانية" أطلقت في أيار الماضي مبادرة عالمية لـ "الصلاة من أجل الإنسانية" للدعاء برفع وباء فيروس "كوورنا" المستجد عن العالم. وهو ما يؤكدّ أن اللقاء بين بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر قد أخذ يسلك مسارات عمليّة.
وللمفارقة فإنّ التطوير المستمر للعلاقات بين الأديان في شبه الجزيرة العربية يحصل في وقت تعمّ في دول المشرق العربي الذي يعدّ المهد التاريخي لتلاقي الأديان السماوية حروبٌ وصراعات فتّاكة تهدّد كلّ يوم بتدمير العيش الآمن للناس وبطمس الموروث الحضاري لهذه المنطقة، خصوصاً في ظلّ نزوع الجماعات الطائفية والمذهبية إلى تأويل الخصوصيّات تأويلاً تنابذياً، بحسب تعبير الدكتور رضوان السيّد.
في المحصلة، فإنّ مبادرات الانفتاح الديني في شبه الجزيرة العربية لا تحمل معاني إنسانية وحسب لكن سياسية أيضاً، إذ هي تنقض نظريات "القطيعة" ونبذ الآخر التي تُنسب إلى الإسلام، والتي تأسّست عليها تيارات الإرهاب على مدى عقود. كما أنّ هذه المبادرات، وفي إطارها الإقليمي الأوسع، تعيد إنتاج تيار إسلامي "وسطي ومعتدل"، يقابل التيار الإسلامي "الثوري"، الذي أطلقه قيام الجمهورية الاسلامية في ايران في العام 1979، وسرعان ما تحوّل مشروعاً عسكرياً توسّعيا أغرق دول المشرق بالميليشيات المذهبية، وحفزّ حركات الإسلام السياسي في المشرق والمغرب، الأمر الذي تسبّب في تشقّقات أهلية خطيرة على أنقاض الدولة الوطنية في المنطقة.