ضجيج السلاح وصمت السياسة - أيمن جزيني

ميليشيات السلاح بطبيعتها المناقضة للدولة صارت كثيرة. الميليشيات مُقنّعة عند الجميع تقريباً، لكنّها مُعلنة عند فريق الممانعة، وأبرزها ثلاثيّ المناورات العسكرية الأخيرة: الحزب، حركة أمل، الحزب السوري القومي الاجتماعي.

يضع المكشوفُ والمستتر من هذه التشكيلات العسكرية الحياةَ السياسية اللبنانية في لحظة انسداد وطني عامّ. شعور القوى السياسية كلّها بفوائض قدراتها على التحشيد الميليشياوي يدفعها نحو ارتطام أشدّ وقعاً بسبب من تصلّب سياسي لا يني يشتدّ إزاره.

فهل تطلق هذه المناورات "سباق تسلّح" جديد، في لحظة ذهاب القوى الإقليمية إلى تسويات عنوانها الازدهار الاقتصادي؟

القضايا الجلفة

تاريخياً اندفعت قوى التحشيد الميليشياوي في لبنان إلى عسكرة القوى التي تنتمي إليها بدفع من غُلاتها الذين لا يعرفون السياسة ولم يختبروا ميادينها. الثابت عندنا أنّ الميليشيات، أيّ ميليشيات، متى عقدت العزم على رفع رايات قواها الأهلية تصبح أقوى وبلا قياس من جيش الدولة اللبنانية.

اندفع المغالون في قواهم جرّاء قضايا جلفة ارتقت إلى "المقدّس". وذهب أمثالهم إلى حيث لا عودة بسبب من "قلقٍ" ادّعوه على الجماعة. الأهمّ في هذا السياق أنّ هؤلاء وممثّليهم ما عادوا خجلين بما فعلوه ويفعلونه.

مقاومة بلا هدف

ذهبت هذه القوى مذهباً واحداً في تبرير ذواتها يوم سعت إلى التنصّل من مواضيها العنصرية. ردّت جذورها الأولى إلى "مقاومة" ضدّ محتلّ ما. والاحتلالات التي تعاقبت علينا خلال عقود خمسة كثيرة. في الأثناء، صارت كلّ ميليشيا موازية للجيش اللبناني الذي تلقّى الضربات منها جميعها. تدفّقت عليها ميزانيات ماليّة مهولة. وسائلها الإعلامية بلغت الذرى في قوّتها حتى تجاوزت وسائط الدولة.

بعد كلّ هذا، وبعدما تحرّر البلد من كلّ الاحتلالات، ما برحت تشكيلات شيعية وحلفائها المنضوين تحت رايتها السياسية، تبني شرعيّتها على الهواجس الأهليّة، وذلك بعدما سلّمت كلّ الأحزاب الأخرى أسلحتها لاتفاق الطائف.

بعد تحرير الجنوب في العام 2000 صارت المقاومة بلا هدف. وحده الحزب جعل من المقاومة مهنة لا مهمّة تنتهي بانتهاء ما وجب تحقيقه.

ولئن حالت التراكيب الأهلية اللبنانية دون ذلك، فإنّ الكثير الكثير من هذا بقي وترسّخ: ما أرساه خلال الحقبة الماضية انتخاب رئيس للجمهورية موالٍ للحزب، المواقف الرسمية التي قطعت مع الشرعيّتين العربية والدولية، ذهاب الحزب إلى حيث المعارك التي تكرّس "الهلال الشيعي".

في الأساس نشأ الحزب على قضايا ما فوق لبنانية. بمعنى أدقّ كان على الدوام مهجوساً بما وراء الحدود. في الداخل قال إنّ مهمّته تحرير القدس. قاتل في البوسنة. عندما ضاقت الدنيا على إيران أغاثها في سوريا، العراق، واليمن. هدّد أمن دول الخليج برمّتها، من الكويت إلى السعودية والبحرين والإمارات... ضرب في أصقاع العالم النائية وصولاً إلى الأرجنتين وأميركا اللاتينية وأوروبا. نظّم خلايا نائمة في دول عدّة حتى بات قادراً على زعزعة استقرارها الوطني بواسطة قرار يُتّخذ من منطقة بضاحية بيروت الجنوبية.

لم يكن يوماً شبيه البلد. ولم يكن البلد يوماً قادراً على هضمه.

انسداد سياسيّ

أما أنّ لبنان صار إلى ما صار إليه طوعاً جرّاء رفع الجدران العازلة عن السياسة بين مختلف القوى، فقد بتنا أمام حصاد ما سكتنا عليه منذ قيام الطائف لجهة بناء الدولة. وأن يُعامل العالم لبنان واللبنانيين على أساس سيطرة الحزب ورهطه على البلد، وأن لا تنجز قوى الاعتراض شيئاً في السياسة، فهذا لا يعني إلا أنّنا أصبحنا دولة فاشلة جرّاء انسداد سياسي عقيم.

مع تصلّب القوى السياسية كلّها بميليشياتها المُعلنة والمُستترة فإنّ هذا لا يفعل غير تحريض العالم علينا ومن دون تمييز، اللهمّ إلا في الحصص الإغاثية. استعادت هذه القوى مجتمعة الشعار الرهيب الذي ألغى كلّ حظوظ مجتمعات المنطقة في أن تتحوّل إلى دول: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". والمعركة هنا هي على من ينتصر في فرض رئيس الجمهورية الذي يريد. والأمجاد التي تبنيها الحروب إنّما تهدمها الحروب والصراعات نفسها.

ما يحصل اليوم يقول الكثير عن لبنان وجماعاته وأحزابه. ويقول أيضاً إنّ الطرفين "الممانع" و"السيادي" يتناسيان الكثير ممّا وجب أخذه في الاعتبار بعيداً عن حسابات الأصوات.

الوقائع المنسيّة

هناك ثلاث حقائق على الحزب ومعه كلّ "قوى الممانعة" التيقّن منها وإدراكها:

1- إنّ أيّ رئيس للجمهورية سيتمّ انتخابه لن يكون مماثلاً للرئيس السابق ميشال عون، وإنّ عهد الأخير قد انتهى.

2- إنّ الحزب لا يملك بفعل نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة القدرة على فرض رئيس للجمهورية.

3- إنّ الانتصارات الميدانية خارج الحدود اللبنانية لا يمكن قبض ثمنها في الداخل اللبناني.

بالمقابل على خصوم الحزب في لبنان إدراك ثلاث حقائق في مباشرتهم لكلّ الملفّات والاستحقاقات السياسية:

1- إنّ حجمهم النيابي معرّض للانكماش والتحوّل السلبي عند كلّ استحقاق. هذا ما أثبتته معركة انتخاب اللجان النيابية، وقبلها معركة انتخاب نائب لرئيس مجلس النواب، وبالتالي لا يمكنهم الاطمئنان للتعداد داخل المجلس في المعارك الكبرى.

2- إنّ الانغماس في الأحلاف والمحاور، أو الانتقائية في العلاقات مع الخارج، وعلى وجه التحديد مجافاة إيران وسوريا، لن يكون ممكناً صرفهما في الداخل ما دام فريقٌ سيقف في وجههما.

3- الوحدة التي يرومها اللبنانيون هي الوحدة الوطنية، وليس وحدة المعازل الأهلية التي أسقطها اتفاق الطائف.

صار ضرورياً على المتخاصمين أن يدركوا باليقين أنّ الأولويّة هي لاتفاق الطائف ونهائية الكيان وعروبته غير الأيديولوجية، وفي المتن العيش المشترك، والالتزام بقرارات الشرعية الدولية.

كلّ هذا وفي البال أنّ السلاح هو العازل الأكبر عن السياسة، والذي ينسى حَمَلته بأن لا شرعية لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.

*عن صفحة أساس-ميديا