دكتور فارس سعيد يزور راشيا الفخار - صيغة عيشِنا هي صيغةٌ صَعبةٌ ولكنها الأجمل

  • طوني حبيب -
  • الآراء -
  • دكتور فارس سعيد يزور راشيا الفخار - صيغة عيشِنا هي صيغةٌ صَعبةٌ ولكنها الأجمل
دكتور فارس سعيد يزور راشيا الفخار - صيغة عيشِنا هي صيغةٌ صَعبةٌ ولكنها الأجمل
الأحد 23 نوفمبر, 2025

بمناسبة عيد الاستقلال وبدعوة من رئيس بلدية راشيا الفخار ونائب رئيس اتحاد بلديات العرقوب، الاستاد بيار عطالله، زار الدكتور فارس سعيد البلدة على وقع الغارات الاسرائيلية في المنطقة، حيث ألقى كلمة بالمناسبة وجرى حوار سياسي مع الحضور.

وقد شارك في اللقاء ممثلين عن الاحزب في المنطقة، الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي وحزب القوات اللبنانية وتيار المستقبل، وممثل عن رئيس اتحاد بلديات العرقوب وممثلين عن الفعليات الدينية ورؤساء بلديات ومخاتير بالاضافة إلى حضور من المنطقة.

وبعد أن ألقى الدكتور سعيد كلمته دار حوار سياسي حيث شدد الدكتور سعيد على أهمية التمسك بالدستور وبصيغة عيشنا المشترك خصوصا في هذه المرحلة التي تمر بلبنان والمنطقة.

نرفق نص كلمة الدكتور فارس سعيد.

 

أول كلامي هو الشكرُ الخالص لبلدية راشيا الفخار، ولرئيسها الصديق بيار عطالله ولإتحاد بلديات العرقوب، ولجميع الحاضرين في هذا اللقاء – الشكر على هذه الدعوة الكريمة للتواصل والحوار والتداول في الشأن الوطني العام.. وهي دعوةٌ أعتبرُها اسثنائيةً بامتياز وطبيعية بامتياز:

  • هي استثنائيةٌ في هذه الأوقاتِ بالذات، لأنها تأتي مُخالِفةً لأجواءِ التّباعُدِ والفُرقةِ التي سادت بين اللبنانيين في العقدين الأخيرين، ثم تفاقمت في السنتين الأخيرتين حتى أصبحت كلُّ جماعةِ أو منطقة أو بيئةٍ اجتماعية تشعرُ بقلقٍ وجوديّ وتبحثُ عن خلاصٍ كيفما اتَّفق وبمعزلٍ عن الآخرين!
  • وهي دعوةٌ طبيعية بامتياز، لأنها تردُّنا إلى قانونٍ أساسي في حياتنا الوطنية وفي مواجهة المشكلات، هو قانونُ الوَصلِ والتواصُلِ، على قاعدة أنه "لا حلَّ طائفياً أو فئوياً في لبنان لمشكلةٍ طائفية أو فئوية، وإنما هناك حلٌّ وطنيّ للجميع"..

سأكتفي بمَثَلين/شاهدين على ما أقول، عرفنا أحَدَهما ونحن على مقاعد المدرسة، واختبرنا الآخر أثناء الحرب السيئة الذكر (1975-1990) وما زلنا نختبرُه حتى الآن أكثرَ من أي وقتٍ مضى:

I. المثلُ الاول، هو ما عبّر عنه لسانُ حالِ الاستبداد والاستعمار عبر التاريخ: "فرّق تسُد!".. لم يَقُل "إقمَع واقتُل تَسُد"، بل فرّق تَسُد.. ذلك أنّ الفُرقةَ بين الناس وانقطاع التواصل هما الضمانة الأقوى لتأبيد السيطرة والاستبداد.. في حديثٍ مع أحد الاصدقاء ذات مرة، أتينا على ذكر الاستبداد في تاريخ منطقتنا، فاستحضرتُ كلمات الحجاج بن يوسف الثّقفي بتهديده أهلَ العراق: "... إني لأرى رؤوساً قد أيعنت، وحان قِطافُها، وإني لصاحِبُها" – واكتفيتُ بهذا الاقتباس من خُطبته الشهيرة.. عقَّبَ صديقي قائلاً: نعم، لقد حفظنا جميعاً هذه العبارة من خُطبة الحجاج، ولكننا نسينا التّهديدَ الأقوى والأشدّ في عبارته التالية من الخطبة ذاتها.. قُلت: وما هي؟ قال: هي عبارة "واللهِ لأجعَلَنَّ لكلٍّ منكم شُغلاً في بَدَنِه يُغنيه عمّا سواه".. وفي روايةٍ أخرى "... يُغنيه عن قيل وقالَ وقلتُ".

مَثَلُ الحجاج الثّقفي هو من التاريخ. – ونَسأل: تُرى هل اختَبرنا – نحن اللبنانيين – هذه الـ"فرّق تسُد" في حياتنا المعاصرة؟ الجواب لدينا جميعا هو: نعم بالتأكيد. ولعل الشاهد الأبرز على ذلك هو تجربتُنا مع الوصاية السورية. معظمُ الدارسين السياسيين لتلك الفترة يردّون تمكّن الوصاية السورية على لبنان إلى عاملَين أساسيين: قوّة القمع الأمنية-العسكرية، والرضا الدولي-الاقليمي.. أعتقد أن عاملاً ثالثاً كان أكثر تثبيتاً للوصاية، هو سياسية التَفرِقة والمباعَدَة بين اللبنانيين..

على أي حال، خرجَت الوصاية السورية في لحظةِ توحُّدٍ لبنانية نادرة عام 2005 على أثر اغتيال الرئيس الشهيد رفق الحريري، وكانت قد بدأت عام 1989 باغتيال الرئيس الشهيد رينيه معوض: وصايةٌ عاشت وترعرعت بين اغتيالين!.. لقد خرجَت، ولكنّها سلّمت الراية لوصايةٍ ايرانية كانت أشدَّ تقسيماً للبنانيين بالجملة والمفرّق: بالجملة بين الطوائف، وبالمفرّق داخل كل طائفة.. وما زالت هذه الوصاية الايرانية حتى الآن تستدعي الدبّ الاسرائيلي الهائج إلى كرمِنا اللبناني!

II. أما المثلُ الآخر على أنّ في قانون الوَصلِ والتواصُل حياةً لنا، فهو التالي بكل بساطة: لقد جئتُكم من بلاد جبيل، والفضلُ لمن بادر إلى هذه الدعوة، أي لكم.. إذا التقيتُم أي مواطن من منطقتنا المختلطة، لأيّ طائفةٍ انتمى، واستذكرتم أيام الحرب المشؤومة، سيُخبركم أنّ وطأةَ الحرب على بلاد جبيل ونسيجها الاجتماعي كانت في الحدّ الادنى من الخسائر بالمقارنة مع المناطق الأخرى في لبنان.. فإذا سألتموه: كيف كان لكم ذلك؟ سيجيبكم بكل ثقة: لأننا حافظنا على التواصُل والتكافُل والتّراحُم فيما بيننا، بعيداً عن متاريس الطائفية والحزبية والميليشياوية والزعاماتية الشعبوية.

بهذا المعنى، أعتقد أنّ منطقة العرقوب – وأنتم أدرى مني بأحوالها وشِعابها – كان لها نصيبٌ وافرٌ من الحماية الذاتية، بفضلِ قانون الوصلِ والتكافل والتّراحُم فيما بينكم.. هذا رغم أنّ منطقتكم كانت عُرضةً أكثر من منطقتنا للإكراهاتِ الخارجية والتفريقيّة.

ما قلناه بهذا الصدد عن منطقتين عزيزتين في لبنان، يمكن قولُه عن مُجمل التجربة اللبنانية في الحروب.. وهو ما لاحظه بعض المراقبين الدوليين: ففي الآونة الأخيرة سمِعنا من يذكّرنا ويقول: "إن ما مرّ على لبنان من حروبٍ وكوارث في الخمسينَ سنة الماضية، ما بين 1975 و2025، لو مرّ على أي بلدٍ أو مجتمعٍ آخر، لكان كفيلاً بزواله!".. هذا الكلام ليس بعيداً عن الواقع، وهو يدعونا إلى التأمّل والتبصُّر لاكتشاف ما في عيشنا المشترك من ميزات تفاضُليّة وحمائية، ومن إمكاناتِ النهوض.

الحقيقة أننا، كلبنانيين، قد اختبرنا حالتين نقيضتين: حالة العيش معاً بسلام، وحالة اللاعيش معاً.. وفي الحالتين كُنّا مَضرِبَ المثل.

في الحالة الأولى كنّا: شركاء أصيلين في وَضع الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، وفي ميثاق الجامعة العربية، وفي الوثيقة التأسيسية لمنظمة اليونسكو، مثلما كنّا: جامعة الشرق، ومستشفى الشرق، ومصرِف الشرق، والمنبر الاعلامي الحرّ في الشرق.. وفوق ذلك كلّه كنّا "أكثر من بلد.. كنّا رسالةً في محيطنا والعالم"، بحسب عبارةِ قداسة البابا بوحنا بولس الثاني ودعوتِه.

وفي حالةِ اللاعيش معاً كنّا مضرِبَ مَثَلٍ على "كيف يهدمُ شعبٌ دولتَه على رأسه، حين يُرفعُ الاختلاف (أي التعدُّد والتنوّع الطائفي – وهو نعمة) إلى منزلة الخِلاف (أي الشِّقاق والنزاع – وهو نقمة)".. هذا الوصف ليس من عندي، وإنما هو مضمونُ ما قالته الأكاديمية الفرنسية أوائلَ التسعينيات من القرن الماضي، حين أدخلت على قاموسها La Rousse مصطلحاً جديداً هو "اللَّبنَنة" Libanisation، على غرار "البَلقَنة" Balkanisation، كما قالت..

بالعودةِ إلى الحديث عن تنوُّعِنا وتعدُّدنا في لبنان، لطالما سمعنا من قالَ ولمّا يَزَل بأنّ تاريخَ عيشنا معاً، وبسبب تنوُّعِنا وتعدّدِنا، كان سلسلةً من المناكفات والنزاعات والتّوافقات.. أنا من القائلين بالعكس.. وأضيفُ بأنّ صيغة عيشِنا التي ارتضيناها منذ نشوءِ الكيان الوطني اللبناني هي صيغةٌ صَعبةٌ تحتاجُ إلى تفهُّمٍ ورفقٍ ودراية، لا بل هي الأصعب، ولكنها الأجمل!.. وهذه مناعةٌ عندي فكرية، موثّقةٌ ومُسَدّدةٌ بفعلِ إيمان وبواقعِ عيشٍ يوميّ مع الآخر المختلف الذي يمثّل جزءاً من تعريف الذات.

نشرت صحيفة Le Figaro في عددها يوم الثلاثاء 18-11-2025 استطلاع رأي لشركة IFOP أكّد على صعود التيار الاسلامي عند المسلمين الفرنسيين. على سبيل المثال لا الحصر، ارتفعت نسبة ارتداء الحجاب عند البنات من 6% إلى 43% داخل المدارس الرسمية بين العام 2004 والعام 2025، رغم صدور قرار منع الحجاب في الأماكن العامة.

إن هذه التجربة تؤكد لنا عجز اللامركزية الفرنسية الموسعة كما العلمانية الفرنسية عن معالجة مشاكل العيش معاً مختلفين، بينما أكدت التجربة اللبنانية على قبول الآخر المختلف كما هو وليس كما نريده أن يكون. كما أن الدستور اللبناني (الذي لم يعجب أحد) لحظ وأكد على أنه لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.

وبعد.. لقد استرعى انتباهي اختياركم الموفّق لتوقيت هذا اللقاء: عيد الاستقلال 22 تشرين الثاني، وعشيّة زيارة قداسة البابا ليون الرابع عشر إلى لبنان. فلهذا التوقيت دلالةٌ ورمزيةٌ وثيقتا الصّلة بمضمونِ حوارِنا ومَقاصِدِه.

1) فذكرى الاستقلال تدعونا إلى التأمّل والتفكّر والتدبّر في حالِ استقلالنا اليوم، وتحديداً في حالِ "الدولة السيّدة الحرّة المستقلّة" بأبعادها التعريفيّة الثلاثة، والمحدّدة في فلسفة الاجتماع السياسي والفقه الدستوري الحديثين"

  • الدولةُ بما هي أولاً "أعظمُ اختراعٍ اجتماعي لحفظِ الحقوق، ودرءِ المفاسد (أي استبعادها وتَوَقّيها)، وجَلبِ المنافعِ العامة" – العامة وليس الخاصّة؛
  • والدولةُ بما هي ثانياً صاحبةُ الحقّ الحصري في استخدامِ العُنف، دون أي جهةٍ أخرى؛
  • والدولةُ بما هي ثالثاً الجهةُ التي نأتي إليها جميعاً بشروطِها، وليس بشروط كلٍّ منّا.

بغير ذلك، أي تلك الأبعاد الثلاثة مجتمعةً، لا يكونُ عيشُنا معاً عيشاً حقيقياً وفِعلياً، وإنما هو أحسنِ الأحوالِ مُجاوَرةٌ ومُساكنة.. وبغير ذلك لا تكونُ الدولةُ سوى مكانٍ للمحاصصةِ وسوقٍ للمبازرة.. نُرسل إليهما مندوبينا للبيع والشراء وعقدِ الصفقات.. فإن اتفقوا فلِصالح أشخاصهم، وإن اختلفوا فالخسارةُ على الناس، كلّ الناس!.. "وقمح بدّك تاكلي يا حنّة ويا إم حسين!".

2) أما زيارة قداسة البابا ليون الرابع عشر، وفي هذا الوقت بالذات، فهي دعوةٌ مشدّدة للحفاظ على معنى لبنان، بوَصفِه رسالةً في محيطه والعالم للعيش معاً بسلام، متساوين ومختلفين.. والحقيقة أن الكنيسة الرسولية الجامعة دأبت على رعاية هذا المعنى في الشرق منذ الفاتيكان الثاني 1963-1965 مع قداسة يوحنا الثالث والعشرين وبولس السادس، ثم مع السينودس من أجل لبنان 1995 وقداسة البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي "رجاءٌ جديدٌ للبناني"، ثم مع قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر وإرشاده الرسولي "من أجل سلام الشرق الأوسط"، ثم مع قداسة البابا فرنسيس في "وثيقة الأخوّة والانسانية" بالشراكة مع سماحة شيخ الأزهر، والآن مع البابا ليون الرابع عشر بعد عشرة أيام.

إذا كان إرشاد البابا يوحنا بولس الثاني قد مثّل "رجاءً جديداً للبنان"، فإنّي أرى في زيارة البابا ليون وما يمكن أن يّصدُرَ عنها من إرشادٍ رسولي أو إعلان – أرى فيها رجاءً متجدّداً للبنان، للاعتبارات التالية:

  • هي أولً زيارة يقوم بها قداسة البابا إلى بلد خارجَ حاضرة الفاتيكان. ولهذا الاعتبار دلالةٌ على أولويات اهتمامه.
  • وهي زيارةٌ تأتي فيما يعيشُ اللبنانيون قلقاً مضاعفاً حين يسمعون من أفواه المراقبين بأن لبنان ليس من أولويات اهتمام القوى الفاعلة والكبرى في العالم.
  • وهي تأتي أيضاً وخصوصاً – ولعله الاعتبار الأهم من الناحية الجيوسياسية – تأتي في لحظة تاريخية تشهدُ تحوّلاً في تعاطي العالم مع منطقتنا. يتمثّلُ هذا التحوّل في مَيلٍ واضح إلى التعامُل مع "الدولة الوطنية"، بدلاً من التعامُل السابق على مدى عقود مع القوى الموازية للدولة والخارجة عن الدولة.. بهذا المعنى هي لحظةٌ تاريخية مؤاتية، أو فُرصةً كما جرى مؤخراً على ألسنةِ المتحدّثين، لإعادة الاعتبار إلى الدولة الوطنية في لبنان.. أنا أفهمُها فرصةً لهذه الغاية، وليست فرصةً للثأريّات، استناداً إلى انقلاب موازين القوى.. أنا مع قوة التوازن، وليس اللّعِب على موازين القوى.. ولقد أسعَدَني أن سمعتُ قبل أيامٍ فخامة رئيس الجمهورية يقول: "خّيارُنا هو اتّباعُ قوّة المنطق، لا مِنطِقِ القوة" – قال ذلك رداً على الضّغوط والتهديدات التي تنهالُ على الدولة من القريب والبعيد، من الصديق والعدو.

أعتذر عن هذه الإطالة التي قد تبدو بعيدةً عن السياسة المباشرة، ولكنّي أعتقد أن السياسة من دونِ بوصلةِ القيم والمبادئ تبقى مجرّد "حرتقة".. وعلى ذلك أنا في خدمتكم للإجابة عن المسائل السياسية.