الى دولة رئيس مجلس الوزراء الدكتور حسان دياب.
عندما عُيِّنت رئيساً للحكومة اراد عدد من اللبنانيين ان لا يحكموا مسبقاً عليك، خصوصاً انك لا تنتمي الى بيوت سياسية انتقلت اليها السلطة بالوراثة ولا الى مجموعات فرضت نفسها بقوة السلاح ولا الى طبقة حديثي النعمة الذين عبَّدوا طريق وصولهم الى السلطة عبر المال من دون السؤال كيف حصلوا عليه حلالاً او حراماً.
وهؤلاء الذين شاؤوا إعطاءك فرصة لم يكونوا سذجا، بل كانوا يدركون الظروف التي أوصلتك الى السراي والاجواء المحيطة بما سمي "حكومة اللون الواحد".
ولكن سرعان ما بدأت الهفوات تتسارع والتناقضات تتكاثر والاخطاء تتراكم والتجاوزات تتضاعف. وبدلاً من الافادة من تجارب الذين سبقوك ووقعوا في مطبات سمفونيات التطبيل والتزمير والتبجح بمشاريع لم تبصر النور، أفرطت في التباهي بانجازات وهمية كان من نتائجها المباشرة زيادة معاناة المواطن في عتمته المظلمة.
لا بد من التوقف عند آخر "إنجاز" لك خاص بالعلاقات اللبنانية – الفرنسية. أتناول هذا الموضوع مستنداً، ليس فقط الى متابعة مهنية لتطور هذه العلاقات على مدى أكثر من اربعين عاما من خلال عملي الاعلامي في باريس، بل معتمداً ايضا على ابحاث اكاديمية في التاريخ المعاصر واطروحة انجزتها حول هذه العلاقات في جامعة السوربون.
قد يغيب عن بال هذا السياسي أو ذاك بعض الوقائع بسبب جهله أو إهماله، لكن كونك "يا دكتور" رجلا اكاديميا فإن تجاهلك للتاريخ خصوصا المعاصر، يعتبر أكثر من ”خطأ" وقد يصل الى حد "الخطيئة". لأجل ذلك ولكل من خانته الذاكرة لا بد من عرض الحقائق الأتية:
ان تنسَ لا تنسَ فرنسا مع الجنرال شارل ديغول الذي اتخذ موقفا حازما في العام 1969 ضد اسرائيل بعد اعتدائها على مطار بيروت الدولي ووصل الى حد فرض الحظرعلى بيع الاسلحة لها. كما ساعد الرئيس الفرنسي نظيريه اللبنانيين فؤاد شهاب وشارل حلو في إرساء قواعد لبنان الحديث.
ان تنسَ لا تنسَ فرنسا في عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان الذي كان اول من بادر في بداية الحرب في العام 1975 الى ارسال شخصيتين ديغوليتين عريقتين هما رئيس الوزراء موريس كوف دو مورفيل والوزير جورج غورس كموفدين للمساعدة في وضع حد للاشتباكات وايجاد حل سياسي. ثم جاء قرار الرئيس جيسكار ديستان في العام 1978 والقاضي بمشاركة فرنسا الفاعلة في القوة الدولية العاملة في جنوب لبنان.
ان تنسَ لا تنسَ فرنسا مع الرئيس فرنسوا ميتران الذي ارسل جنوداً فرنسيين الى بيروت للمساهمة في القوة المتعددة الجنسيات في العام 1982، ثم استضافة لقاءات الحوار اللبناني- اللبناني في الكي برانلي وصولا الى قرار استقبال العماد ميشال عون في منفاه الفرنسي في العام 1991 واقامته على مدى حوالي خمسة عشر عاما مع كلفتها الباهظة.
ان تنسَ لا تنسَ فرنسا مع الرئيس جاك شيراك الذي جهد على اصعدة ثلاثة: الاول دعم سيادة لبنان ومساعدته لبسط سلطته على أراضيه أكان من خلال لعب دور الوسيط الناشط للتوصل الى "تفاهم نيسان" في العام 1998 اوعلى صعيد تحركه الدولي في اطارمجلس الامن لتبني القرارين 1559 و1701. اما الصعيد الثاني فقد تناول العمل لإعادة موقع بيروت الى الخارطة الديبلوماسية الدولية من خلال زيارتيه للعاصمة اللبنانية، أضف الى ذلك تقديم الدعم الفاعل والحاسم لاستضافة لبنان القمة الفرنكوفونية في العام 2002 . اما الصعيد الثالث فتركز على الجانب الاقتصادي من خلال استضافة العاصمة الفرنسية لمؤتمرات الدعم المالي للبنان ما عرف بمؤتمرات "باريس 1" و"باريس 2" و"باريس3" في الاعوام 2001 و2002 و2007 ، من دون ان ننسى المساعدات الطارئة المتعددة والمتنوعة خصوصا تلك الالتفاتة الخاصة عبر ارسال عاجل لمولدات أُخذت من احتياط مستودعات الجيش الفرنسي لتأمين الإنارة بعدما قصفت اسرائيل المنشآت الكهربائية في عدد من المواقع اللبنانية.
ان تنسَ لا تنسَ فرنسا في عهد الرئيس نيقولا ساركوزي الذي استضاف لقاءات الحوار اللبناني- اللبناني في سيل سان كلو في العام 2007 ثم رعايته في العام 2008 الخطوة التاريخية بتأسيس العلاقات الديبلوماسية بين لبنان وسوريا وجمع الرئيسين اللبناني والسوري في باريس.
ان تنسَ لا تنسَ قرار فرنسا مع الرئيس فرنسوا هولوند باستضافة لقاء مجموعة الدعم الدولية للبنان في العام 2014 وبتقديم مساعدة استثنائية بقيمة مئة مليون يورو في العام 2016 لدعم لبنان في معالجة تداعيات استقبال النازحين السوريين.
ان تنسَ لا تنسَ فرنسا في عهد الرئيس ايمانويل ماكرون الذي تدخل في العام 2017 لدى المملكة العربية السعودية لاعادة الحرية الى الرئيس سعد الحريري ومن ثم استضافة باريس في العام 2018 لمؤتمر دعم لبنان مالياً واقتصادياً من خلال "سيدر".
ان تنسَ لا تنسَ ان المبادرات الفرنسية تجاه لبنان، ولا مجال لتعدادها كلها خصوصا إذا ما أضفنا اليها نشاطات عشرات الجمعيات الأهلية والمدنية الفرنسية، كانت باهظة جدا لباريس. كلفة ديبلوماسية من خلال مواجهتها المستمرة لجارتي لبنان سوريا واسرائيل اضافة الى معاناتها مع الولايات المتحدة وايران. ثم كلفة مالية واقتصادية من خلال رزمة مساعدات متواصلة لمختلف القطاعات. أضف الى ذلك تحمل أعباء بشرية بالغة نتيجة خطف عدد من ديبلوماسييها وصحافييها وخسارة اكثر من 150 جنديا على الارض اللبنانية (اكبر عدد من الجنود الفرنسيين الذين قتلوا في عمليات خارجية) اضافة الى مقتل احد الباحثين الجامعيين واغتيال احد ابرز ديبلوماسييها السفير لوي دولامار في العام 1981.
ليس القصد من عرض هذه المحطات إجراء مطالعة سياسية للدفاع عن الدور الفرنسي في لبنان، فالديبلوماسية الفرنسية هي الاقدرعلى ذلك. بل انها مجرد تذكير تاريخي بمراحل تطور هذه العلاقات المميزة التي أثبت فيها الجانب الفرنسي أنه بالفعل "صديق عند الضيق" وأظهر أنه "صادق وفاعل" على حد قول ديبلوماسي لبناني.
ويرى مرجع عمل طويلا على خط تدعيم التواصل بين بيروت وباريس "ان مشكلة فرنسا مع البعض داخل لبنان وخارجه انها تمسكت منذ العام 1920 بمشروع "لبنان الكبير" والتزمت منذ العام 1943 صيغة "لبنان السيد الحر والمستقل" وشاركت منذ العام 1965 بورشة بناء "لبنان المؤسسات" في حين عمل آخرون في الخفاء عكس ما كان يدعونه علناً".
ويضيف هذا المرجع ان المطلوب "ليس الاعتراف بجميل فرنسا بقدر ما هو المحافظة على الثقة مع احد ابرز اصدقاء لبنان اوروبياً ودولياً وتعزيزها خصوصاً في مرحلة انهماك الدول، أصغيرة كانت ام كبيرة، بأمورها الداخلية ومعالجة مشاكلها الاجتماعية والمالية والاقتصادية التي تفاقمت مع نشوء الازمة الصحية الكورونية وباتت إمكانات التحرك الخارجي لهذه الدول محدودة".
أخيرا ينبغي لفت فاقدي الذاكرة الى ان الدول الصديقة للبنان وفي مقدمها فرنسا تشهد تغييرات عميقة في تكوين طبقتها السياسية بحيث يغيب جيل الوجوه القديمة التي كان لبنان يعني لها كثيراً مع ما يرافقه من تعاطف شخصي بينما يصل الى السلطة اليوم جيل من الوجوه الشابة التي تتحكم بها مصالح آنية ولا مكان للعواطف في حساباتها.
من هنا جاءت صدمة الكثيرين من كيفية التعامل اللبناني الرسمي مع شخص بحجم وأهمية وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان خلال زيارته الأخيرة لبيروت. فهو اضافة الى كونه عميد الوزراء الفرنسيين الحاليين واقدمهم تجربة واوسعهم خبرة فانه يكن للبنان عاطفة خاصة. وهذا الشعور بدا جليا لمن شاهد لودريان وسمعه في مجلس الشيوخ يتحدث عن لبنان اخيرا. فهو لم يخف تأثره وانزعاجه وانفعاله. فقد ختم كلمته بعبارة غابت عن وسائل الاعلام حيث انهى مداخلته بعد ان دعا اللبنانيين الى مساعدة انفسهم لكي يساعدهم الاخرون "ساعدونا لنساعدكم" باطلاقه صرخة مُرَّة وموجعة عبر عبارة : “Bon sang”!
دولة "الدكتور حسان"
هناك قول مأثور عن الصداقة : "الصديق الحقيقي هو من يعرف كل أخطائك وكل شيء عنك ولا يزال يحبك"... فرنسا تعرف كل أخطاء لبنان وتعرف كل شيء عنه ولا تزال تحبه...اللهم اذا كان هو لا يزال يحب نفسه !
النهار
بشاره غانم البون
اعلامي لبناني في باريس
دكتور في التاريخ المعاصر