كانت رئاسة الحكومة في لبنان معقودة لشخصيات سنّية تجمع بين المكانة الاجتماعية والوزن السياسي والثقافة على مدى عقود من عمر لبنان المزدهر. وأول من تبوأ هذا المنصب رياض الصلح، تكريسا للتفاهم الذي جمعه مع بشارة الخوري من أجل تحقيق الاستقلال عام 1943. وتوالى على السراي الحكومي شخصيات أمثال سامي الصلح وعبدالله اليافي وصائب سلام ورشيد كرامي، ثم تقي الدين الصلح ولاحقا سليم الحص، وصولا الى رفيق الحريري. وفرض كل من هؤلاء احترامه في موقعه، ومعظمهم ترأس الحكومة مرات عديدة، فكانت له استقلاليته ونهجه وأسلوبه في الحكم، ومنهم من عاصر أكثر من رئيس للجمهورية، ومنهم من اختلف مع رئيس الجمهورية على طريقة ادارته للحكم رغم الصلاحيات المحدودة التي كان يتمتع بها رئيس الحكومة بحسب الدستور ما قبل "اتفاق الطائف". وعندما كان ينتقل احدهم الى المعارضة كان يحسب له حساب، أمثال سلام وكرامي. كان سلام على سبيل المثال ربما الأكثر شعبية كرئيس حكومة، والأكثر قدرة على تحريك الشارع، وفرض نفسه سواء عام 1952 عندما لعب دورا في معارضة حكم الرئيس بشارة الخوري، أو عام 1958 عند مشاركته في معارضة محاولة الرئيس كميل شمعون لتجديد ولاية ثانية. كان يعرف كيف يحكم، ومن ومتى يخاصم. حسابات رؤساء الحكومات في تلك الحقبة كانت سياسية، وليس مجرد مناكفات شخصية او مزاجية، تحكمها خيارات داخلية ومناخات عربية، كذلك حسابات الربح والخسارة في الميزان والمزاج الشعبي ومصالح الناس. كان العديد منهم يجسد نهجا سياسيا قائما بذاته.
أين نحن اليوم من تلك الشخصيات، ودورها السياسي، واداءها الحكومي وتعاطيها مع الشأن العام؟ أين قماشة رجال الدولة أمثال الصلح واليافي؟ أين حنكة ودهاء وأناة كرامي؟ أين استقامة الحص؟ أين وأين... الصورة تبدو اليوم مقلوبة رغم الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها رئيس الحكومة بعد التعديلات التي أدخلها "اتفاق الطائف" على الدستور! لا بل نحن في منزلة اقل من ذلك بكثير، أقرب الى باش كاتب منه الى رئيس للسلطة التنفيذية، من دون التقليل بدون شك من مستوى الانحطاط العام الذي أصاب في السنوات الأخيرة كل مواقع السلطة، بدءا برئاسة الجمهورية. هذه السلطة التي اضطرت الى التراجع خطوة الى الوراء بفعل ضغط الثورة الشعبية، التي انفجرت في الخريف الماضي (17 تشرين الأول) رافعة شعار "كلن يعني كلن"، سحبت من كم أحدهم الدكتور حسان دياب وقدمته الى اللبنانيين كرجل علم، متعفف، شفاف، زاهد في السلطة، والأهم رجل مستقل متحرر من أي وصاية او تبعية سياسية، وأوكلت اليه مهمة "انقاذ لبنان من الانهيار وتحقيق احلام الثوار".
أقسم هذا الدياب "الكامل الاوصاف" انه لن يشكل حكومة الا من أشخاص تكنوقراط ومستقلين كما يطالب الثوار. غير انه سارع الى تأكيد مصداقيته بتشكيل حكومة اختارها له بميزان الجوهرجي أركان السلطة السياسية الذين حملوه الى السراي، في حين هذا الأمر لم يقبل به اي رئيس حكومة في عز سطوة رؤساء الجمهورية مطلقي الصلاحيات قبل "الطائف"، وحصل ذلك أكثر من مرة. كما لم يقبل رفيق الحريري بان يجتهد اميل لحود بتفسير نتيجة الاستشارات النيابية الملزمة لاختيار رئيس الحكومة عام 1998 فاعتذر عن التكليف. وأول خطوة قام بها "كامل الاوصاف" بعد تشكيل الحكومة هو الانتقال للاقامة في السراي مع عائلته، وهي خطوة لم يلجأ لها أي رئيس حكومة في تاريخ لبنان على اعتبار ان السراي هي المقر الرسمي لرئيس السلطة النتفيذية، وليست منزلا لسكن رئيس الحكومة.
ظهر ساكن السراي للرأي العام شخصية مفتعلة، باهتة ومرتبكة، ومتحينة للفرص. راح يعمل بجد وصمت عاكفا على تحضير ملفاته ودراستها من اجل وضع خطته الاصلاحية الموعودة، وفرض على وزرائه عدم الخوض في الامور السياسية لانهم اعضاء في حكومة تنوقراط لا تتعاطى السياسة، المتروكة لأوليائهم الذين يتولون الأمر. وعندما حاول فتح كوة في جدار الازمة عبر اطلاق مفاوضات تمهيدية مع صندوق النقد الدولي، جاءته الأوامر حاسمة من قبل "حزب الله"، عرابه الأساسي، على لسان نعيم قاسم بالرفض لأي "وصاية دولية". فانكفأ حسان وعاد الى لعبة الكلة في باحة السراي الداخلية مع صديقه دميانوس قطار، وبين لعبة وأخرى حاول ان يقوم بدور الوسيط لتمرير التعيينات المالية والقضائية، فرفع له هذه المرة رئيس الجمهورية الكارت الأحمر. الى ان هونها الله، اي "حزب الله" الذي عاد وتراجع وأعطاه الضوء الأخضر لاطلاق المفاوضات مع صندوق التقد لأسباب يطول شرحها هنا، وهي ليست طبعا كرمى عيون دياب.
وبما ان هو مجرد واجهة لتفاوض فعلي ليس شأنه، فقد حاول ان يخوض غمار لعبة السلطة والحصص ويقتطع حصة له. وبما ان جبران باسيل لن يسمح له بانتزاع حصة من الموارنة فقد قرر وضع يده على مركز محافظ بيروت مثيرا حفيظة الارثوذكس، سياسيين وسلطة دينية. وبطبيعة الحال سيخرج منها خال الوفاض! فيما تولت زوجته الليدي دياب ملء الفراغ في الوقت الضائع بشرح أفكار خطة زوجها الاصلاحية، وتحديدا في كيفية ايجاد فرص عمل، فقد أعلنت من وزارة الاعلام ان بامكان الفتيات ان يعملن كخادمات في المنازل مكان الخادمات الاجنبيات، والشباب على المحطات البنزين! اقتراحات لم يكن احد منتبه اليها...
هذا هو رئيس حكومة لبنان اليوم!
سعد كيوان