الدافع الرئيسي لزيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة وبالتحديد إلى المملكة العربية السعودية هو محاولة الإدارة الأميركية محاصرة التداعيات السياسيّة والأمنية والإقتصادية للحرب الروسية – الأوكرانية على الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية؛ فمن ناحية تسعى واشنطن إلى استقطاب دول رئيسية إلى معسكرها أو بالحد الأدنى إبطاء وتيرة تعاونها مع خصميها الصين وروسيا. ومن ناحية ثانية فإنّ هذه الإدارة تحاول التخفيف من تبعات ارتفاع أسعار الطاقة على اقتصادات الدول الغربية بعدما تسبّب ذلك بمعدلّات تضخّم قياسية فيها، وهو ما بات ينذر بارتدادات سلبية على تماسك التحالف الغربي بوجه روسيا، فضلاً عن أنّه يهدّد حظوظ الديموقراطيين في الإنتخابات النصفية الأميركية في الخريف المقبل.
صحيحٌ أنّ ثمّة عناوين إقليمية لهذه الزيارة، ولعلّ أبرزها سعي واشنطن إلى تحقيق إندماج أكبر لإسرائيل في المنطقة، مع ما يعنيه ذلك من احتمالات بناء نطام أمني إقليمي يبدو أن دونه حتّى الآن عقبات سياسيّة وأمنية. لكنّ وضع الزيارة في سياقها الدولي الرئيسي يساعد على فهم أعمق لظروفها ونتائجها باعتبار أنّ التحوّل في موقف الإدارة الأميركية الحالية بشأن العلاقة مع السعودية لم يأتِ، بالدرجة الأولى، نتيجة مراجعة أميركية لاستراتيجيتها في المنطقة بمعزل عن تبعات الحرب الروسية – الأوكرانية. فلولا تلك الحرب هل كانت واشنطن ستراجع استراتيجيتها لتقليص حضورها وإلتزاماتها في المنطقة بهدف التركيز على منطقة البحر الهادئ ومواجهة توسّع النفوذ الإقتصادي والسياسي الصيني حول العالم؟
هذا التحوّل أو الإستدراك الأميركي لسياساتها تجاه المنطقة، وبالأخصّ تجاه السعودية، كان قد سبقه تحولّ سعودي في مقاربة خريطة العلاقات الدولية للمملكة أملته بشكل رئيسي الإستراتيجية الأميركية للإنكفاء عن المنطقة منذ إدارة الرئيس السابق باراك أوباما الذي وقّع خطّة العمل الشاملة المشتركة مع إيران في العام 2015، والتي نظرت إليها المملكة بعين القلق.
بالتالي فإنّ هذه الزيارة بقممها وبياناتها ونتائجها هي عبارة عن التقاء تحولّين، أميركي وسعودي، الأوّل أملته، بشكل أساسي، ظروف آنية أمّا الثاني فهو نتيجة توجّه استراتيجي جديد للمملكة يقوم على تنويع علاقاتها الدولية بحيث لا تعود قائمة على حصرية الإلتزام بالتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما عبّر عنه الوزير عادل الجبير، مع تركيزه على أنّ واشنطن هي الشريك السياسي والأمني الأوّل للسعودية.
هذا الواقع الجديد فرض إعادة إنتاج توازن جديد في ديناميكية العلاقة السعودية – الأميركية بحيث لم تعد واشنطن قادرة على وضع أجندة هذه العلاقة وفق المصالح والأولويات الأميركية دون الأخذ في الاعتبار مصالح الرياض وأولوياتها. بالتالي فإنّ المتغيّر الأساسي في "العهد الجديد" للعلاقة السعودية - الأميركية هو تعاظم قدرة المملكة على التأثير في مسار هذه العلاقة ووضع أجندتها.
بيد أنّ هذا التوازن الجديد في ديناميكية العلاقة بين البلدين لا يقلّل من أهميّة تجديد الشراكة الإستراتيجية بينهما، بل على العكس فهو كان شرطاً لازماً لتجديد هذه الشراكة وجعلها أكثر فاعلية وديمومة ولكن وفق أسس جديدة يفرضها تكريس السعودية نفسها مركز ثقل سياسي وإقتصادي لا في المنطقة وحسب بل على كامل الخريطة الدولية.
نحن إذاً أمام نوع جديد من العلاقة بين السعودية وأميركا بعد أن "ولّى الزمن على معادلة الأمن مقابل الطاقة" كما قالت سفيرة المملكة لدى واشنطن في مقالتها في "بوليتيكو". ولعلّ تحرّر السعودية من أسر هذه المعادلة يجعلها أكثر قدرة على إستخدام أوراق قوتّها الإقتصادية والسياسيّة للتأكيد على التوازن الجديد في هذه العلاقة.
ثلاث نقاط
طبعاً من المبكر جداً توقّع آفاق "العهد الجديد" بين الرياض وواشنطن، لكن هناك ثلاث نقاط أساسية في البيان السعودي - الأميركي المشترك ستكون حاسمة في مستقبل الشراكة الإستراتيجية بين البلدين.
النقطة الأولى هي التعاون الأمني بين البلدين إذ أكد الرئيس بايدن، "على التزام الولايات المتحدة القوي والدائم بدعم أمن السعودية والدفاع عن أراضيها، وتسهيل قدرة المملكة على الحصول على جميع الإمكانات اللازمة للدفاع عن شعبها وأراضيها ضد التهديدات الخارجية"، وذلك في إشارة إلى إيران التي
شدد الجانبان في البيان على ضرورة ردع تدخلاتها في الشؤون الداخلية للدول.
هذه النقطة فسّرت من قبل أوساط سعودية على أنّها عودة أميركية للتعاون العسكري مع الرياض بما يشمل بيعها أنظمة دفاعية وتقنية عسكرية متقدمّة، وذلك بعدما قلصّت واشنطن هذا التعاون خلال ولاية أوباما كما أوقف الكونغرس الأميركي خلال ولاية دونالد ترامب جوانت من الصفقات والتعاون العسكري مع السعودية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو عن نوعية الأسلحة التي ستكون واشنطن مستعدة لتزويد المملكة بها؟ أي ما هي حدود الإلتزام الأميركي بتسهيل قدرة المملكة للحصول على جميع الإمكانات العسكرية والأمنية اللازمة للدفاع عن نفسها، كما ورد في البيان؟ فمثلاً، هل ستزوّد واشنطن الرياض بطائرات من دون طيّار فتّاكة "lethal drones" بعدما امتنعت حتّى الآن عن تزويدها بها؟ مع العلم أنّ السعودية والصين وقعتا في آذار الماضي على اتفاقية لتأسيس شركة جديدة للطائرات بدون طيّار في المملكة. وتجدر الإشارة في السياق عينه إلى أنّ وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان قدّ صرّح لقناة "سي أن أن" بعد ساعات على مغادرة بايدن الرياض أنّ المملكة إن لم تتمكن من الحصول على معدّات أميركية فهي ستبحث عنها في مكان آخر".
كلام بن فرحان يعني أنّنا في مرحلة اختبار حاسمة لآفاق التعاون الأمني بنسخته الجديدة بين الولايات المتحدة الأميركية والسعودية. فغالب الظنّ أنّ واشنطن التي ستسعى لإستمالة الرياض إلى المحور الغربي في لحظة استئناف الحرب الباردة بين الغرب من جهة وروسيا والصين من جهة ثانية ستكون معنية بطمأنة الرياض إلى أن التزامها بدعم أمنها وتزويدها بأسلحة نوعية هو التزام طويل الأمد. وهذه نقطة أساسية في مسار ترميم ثقة الرياض بواشنطن كشريك أمني، بعد الندوب التي أصابت هذه الثقة وتحديداً منذ امتناع الولايات المتحدة الاميركية عن الردّ العسكري على قصف الحوثيين لمنشآت أرامكو في أيلول 2019.
أكثر من ذلك فإنّ هذا الإلتزام الأميركي تجاه الرياض مرتبط بـ/ ودليل على حدود العودة الأميركية إلى المنطقة، وما إذا كانت نيّة واشنطن تصحيح خطأ إنكفائها عنها، كما قال بايدن من الرياض، تعبّر عن تحوّل طويل الأمد في الإستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة أم أن هذا التصحيح تمليه، بالدرجة الأولى، التحديّات التي تفرضها الحرب الروسية – الأوكرانية على الساحة الدولية. مع الأخذ في الاعتبار أنّ السعودية أكّدت، على لسان الوزير الجبير، أنّها جسرٌ بين مراكز الثقل الدولية. وهو ما يعني أنّها ليست في وارد، أو حذرة جداً، في الإصطفاف كليّا مع هذا المحور أو ذاك.
في السياق الأمني ذاته فقد شدّد الجانبان السعودي والأميركي "على ضرورة ردع التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للدول". وهذا بند مهمّ بالنسبة للسعودية وستكون حدود الإلتزام الاميركي به محدّدة لوتيرة العلاقات بين البلدين بعدما تحمّلت الرياض تبعات الاتفاق الأميركي - الإيراني في العام 2015 حيث شكّل غطاءً لطهران لمدّ نفوذها في المنطقة وصولاً إلى اليمن ما إضطرّ المملكة إلى شنّ الحرب على الحوثيين للحدّ من قدرة إيران على تكريس نفوذها على حدودها الجنوبية. ولا شكّ أن سياسة "اليد الممدودة" التي انتهجتها المملكة مؤخراً، وبالتحديد بعد بدء الإنكفاء الأميركي عن المنطقة، تعود في جزء منها إلى الخشية السعودية من احتمالات الإستراتيجية الأميركية في المنطقة، وبالتحديد تجاه طهران.
النقطة الثانية المهمّة في البيان هي ترحيب الولايات المتحدة بالتزام المملكة بدعم توازن أسواق النفط العالمية من أجل تحقيق النمو الاقتصادي المستدام. والأهمّ إشارة البيان إلى اتفاق الطرفان على التشاور بانتظام بشأن أسواق الطاقة العالمية على المديين القصير والطويل. ولا شكّ أنّ هذا "التشاور بانتظام" يؤكّد استعداد الرياض لأخذ مطالب واشنطن بما يتصّل بملفّ الطاقة بالحسبان ولكن ليس على حساب استراتيجيتها لاستقرار أسواق النفط وبناء نهج متوازن للطاقة، كما قال وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
النقطة الثالثة المهمّة هي الإعلان عن توقيع مذكرة تعاون جديدة تربط شركات التكنولوجيا في كلا البلدين لتعزيز تطبيق تقنية الجيل الخامس (5G) وتمكين تطوير الجيل السادس (6G). ولعلّ أهميّة هذا البند أنّه يحيل إلى التنافس بين أميركا والصين حول هذه التقنيات وسعي كلّ من البلدين إلى استقطاب دول العالم للتعاون معه في شأنها. مع العلم أن السعودية قد باشرت مبكراً في استخدام تقنية الجيل الخامس الصينية. واللافت أيضاً أنّ البيان أشار إلى أنّ الشراكة في إطار مذكرة التفاهم تؤكد موقع المملكة القيادي كحاضنة إقليمية لتطبيق تقنيات (5G)، والتطورات المستقبلية لتقنيات (6G)، وهو ما يمكن تفسيره على أنّه اعتراف أميركي بعدم حصر السعودية تعاونها في هذا المجال مع إحدى هاتين الدولتين.
ولعلّ الجمع بين ديناميكيات هذه النقاط الثلاث يدفع الى الإستنتاج إلى أنّ السعودية أصبحت أكثر استعداداً وقدرة على استخدام نقاط قوتّها السياسية والإقتصادية لتعزيز موقعها على الساحة الدولية. أي أنّها تبني خريطة تحالفاتها الإقليمية والدولية وفقاً لمصالحها الإستراتيجية لا تلبية لمتطلّبات معادلة "الأمن مقابل النفط" التي أصبحت من الماضي. وهو ما يمكن معاينته في كيفية تعاملها مع استراتيجية بايدن لتعزيز دمج إسرائيل أكثر في المنطقة. فعلى الرغم من إعلان الوزير الجبير أنّ خيار السلام مع إسرائيل خيار استراتيجي إلّا أنّ المملكة ربطت أي تطبيع لعلاقاتها مع إسرائيل بالتوصّل إلى حلّ عادل وشامل للقضية الفلسطينية وفقاً لقرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية للسلام. وبالتالي فإنّ هذه الشروط السعودية تؤكّد من جهة أنّ المملكة متمسكة باجندتها العربية والإقليمية الخاصة، كما أنّها تشكّل من جهة ثانية اختباراً لحدود العودة إلى الأميركية إلى المنطقة، وتحديداً من بوابة الدفع باتجاه تطبيق "حلّ الدولتين".