لم تكن المواجهة التي خاضها رئيس مجلس النواب نبيه بري وفاز فيها بشأن عودة المغتربين، والخسارة التي منيت بها الحكومة ورئيسها، سوى الرأس الظاهر من جبل الجليد. وفي معلومات "النهار" من اوساط قريبة من الثنائي الشيعي، أن الجانب المخفي من هذه المواجهة، هو عدم وحدة الرؤية بين الرئيس بري وبين "حزب الله" حيال عدد من الملفات التي أدت الى إنفجار التناقضات داخل الحكومة في شكل غير مسبوق، وآخرها "قشة" إعادة المغتربين التي قصمت ظهر "الانسجام" داخل البيت الحكومي.
وفق هذه الاوساط، فإن العقدة التي لا تزال يجوز وصفها بعبارة "فتّش عن جبران"، أي سلوك رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل الذي يجد تغطية عميقة من الحزب، وجنوح رئيس الحكومة الى الانحياز لما يريده باسيل بتغطية من الحزب، تكمن وراء إنهيار الانسجام في حكومة أثبتت بما يدعو الى الشك أنها حكومة الحزب التي "تنام في حضن التيار الوطني الحر" وفق توصيف بعض هذه الاوساط.
من المرجح، تتابع هذه الاوساط، أن الرئيس دياب عندما جاهر بمعارضته لدعوة الرئيس بري لعودة المغتربين الفورية، كان يعتقد ان موقفه المنحاز للوزير السابق باسيل المّغطى من "حزب الله"، سيمضي من دون مشكلة. لكن الامور لم تمض على هذا النحو، لأنها أتت على خلفية أزمتيّن سبقتا موضوع عودة المغتربين وهما: الكابيتال كونترول، والتعيينات المالية. وفي الازمتيّن، ذهب الرئيس دياب نحو تبني موقف باسيل، وبالاخص فيما يتعلّق بالتعيينات المالية التي يريدها الاخير في قسمها المسيحي من حصّة "التيار الوطني الحر". وبات واضحا ان التيار لم يكن ليمض في هذه الرغبة في حصر التمثيل به لولا موافقة "حزب الله". وكان اول المجاهرين برفض هذه الرغبة زعيم تيار "المردة" سليمان فرنجية الذي هدد بالانسحاب من الحكومة إذا لم تكن له حصة وازنة في التعيينات. ثم جاءت قضية عودة المغتربين التي تحدى فيها باسيل رئيس مجلس النواب، لتعط الاخير فرصة "ثمينة"، وفق تعبير الاوساط نفسها، لكيّ "يضع حدا في وقت واحد لكل من رئيس الحكومة ومرجعيته "العونية" وفق منهج المثل القائل: "بحكيك يا جارة تا تسمعي يا كنّة"!
في قراءة لاوساط شيعية محايدة أن كل الطرق تقود الى العلاقات بين قطبيّ الثنائي الشيعي. فقد بات معلوما، بحسب إعتقاد هذه الاوساط، أن القرار الكبير ل"حزب الله" الذي يجسده مباشرة الامين العام السيد حسن نصرالله، هو الوقوف الى جانب زعيم "التيار الوطني الحر" أيا كانت النتائج عند حلفائه وفي مقدمهم الرئيس بري وزعيم تيار المردة. لكن هذا القرار فجّر انقساما لم يكن يتوقعه نصرالله فسارع الى الاطلالة التلفزيونية الاخيرة، التي وصفتها الاوساط نفسها، بأنها كانت ذات هدف مزدوج: احتواء غضب الرئيس بري ودعم حكومة دياب التي تلقت ضربة هي كافية في ظروف أخرى لكي تسقطها. من هنا وقفت هذه الاوساط عند ما قاله نصرالله في هذا الصدد: "...هذه الحكومة قبلت أن تتحمل المسؤولية في ظرف اقتصادي ومالي صعب جدا، وهذا يعبر عن شجاعة عالية، ثم جاءت الكورونا والوضع المالي والاقتصادي والنقدي الصعب وأيضا قبلت أن تتحمل المسؤولية، لم تستقل من مهامها، لم تقل نحن لسنا قادرين، نحن عاجزون، ابحثوا عن غيرنا..."
هل يمكن القول أن الامور عادت الى سابق عهدها بعد هذا التدخل الحاسم من زعيم "حزب الله"؟
لا يبدو ان الجواب على هذا السؤال بالايجاب، وفق معلومات "النهار" من اوساط نيابية بارزة. فقد قالت هذه الاوساط ان التعايش الطبيعي بين مكونات الحكومة لم يعد ممكنا أبدا. ورأت أن "الجرّة" قد إنكسرت فعلا بين الرئيس بري والرئيس دياب، وبات إحتمال الذهاب الى تغيير الحكومة الحالية مطروحا على بساط البحث. لكن بالطبع دون تحقيق هذا الاحتمال صعوبات جمّة إنطلاقا من نفوذ نصرالله الذي إضطر الى الظهور بمظهر "الآمر الناهي" في إطلالته الاخيرة كي يمسك بزمام الامور وفق هذه المعلومات. وعند سؤال الاوساط النيابية عما ستنتهي اليه الاوضاع السياسية في بيت الاكثرية التي أتت بحكومة دياب، فأجابت انها تلمح رياح إنتخابات رئاسية مبكرة تعيد خلط الاوراق، ولكن على قاعدة تأييد "حزب الله" لوصول باسيل الى قصر بعبدا والتخلي عن وعده تأييد فرنجية لكي يكون الرئيس المقبل بعد الرئيس ميشال عون؟
في إنتظار جلاء هذه التطورات التي تختبئ حاليا وراء وباء كورونا، تغرق الحكومة في "شبر ماء" المسؤوليات الملقاة على عاتقها. فقد سرت شائعات ان جدلا دار بين وزيريّن في آخر جلسة عقدتها الحكومة في القصر الحكومي على خلفية تكلفة الحصة الغذائية التي تستعد الحكومة تقديمها للمحتاجين. فعندما قدّر الوزير المعني الكلفة ب 180 الف ليرة شارحا مكوناتها، إنبرى زميل له انه بإمكانه توفير الحصة نفسها ب 100 الف ليرة فقط. عندئذ رد الوزير المعني مدافعا عن سعره مقترحا زيادتها بالبصل والبطاطا فبدا المشهد وكأن الحكومة " تاجر جملة " في السوق التجاري، وفق تعليق أحد نشطاء الحراك المدني. ولعل هذا ما يفسّر مسارعة النائبة ستريدا جعجع الى الاتصال برئيس الحكومة وتمنت عليه "بأن يكون التفاح من ضمن الفاكهة المقدمة في الحصص الغذائية على العائلات، من أجل تشجيع الزراعة اللبنانية ومساعدة المزارع" وفق النبأ الذي وزعّه مكتب جعجع.
هل صار لبنان عالقا في زمن الكورونا بين إنتخابات رئاسية مبكّرة وبين حكومة تمارس دور تاجر الجملة في السوق؟
احمد عياش- النهار