بعد أن تمزّق النسيج الداخلي اللبناني خلال سنوات الحرب الأهلية حاولت كل جماعة اقتطاع رقعة جغرافية لتبني عليها دورتها الإنمائية والاجتماعية والسياسية والعسكرية بمعزلٍ عن الأخرى، عملنا مع آخرين لإعادة وصل ما انقطع!
واصطدمنا برغبة النظام السوري في إبقاء اللبنانيين رهائن ماضي الحرب، التي تسلّلت إلى كل منزلٍ وعائلة تاركةً آثاراً عميقة.
وتمحورت الحياة السياسية بين العامين 1992 و2005 بين فريقين: فريقٌ يذكّر اللبنانيين بانقساماتهم ويؤكد على أن البلد ممسوك بفضل النظام السوري وغير متماسك بدونه، وفريقٌ آخر يسعى إلى تجاوز الماضي وإعادة جسور التواصل بين اللبنانيين من خلال المصالحات واللقاءات السياسية وصولاً إلى سردية سياسية وطنية جامعة.
تجلّت هذه السردية يوم 14 آذار 2005 على اثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري وتمحورت حول المطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان التي شكّلت المساحة المشتركة بين غالبية اللبنانيين.
اليوم، وبعد انهيار المظلّة الوطنية التي كانت قد تجاوزت الماضي وفتحت آفاق المستقبل، وبعد تراجع عناصر الوصل التي ارتكزت على المسامحة والمصالحة، والتي كان رمزها الأقوى إكليلاً من الزهور وضعه نديم بشير الجميل على ضريح الشهيد رفيق الحريري كُتب عليه "من شهيد 14 أيلول إلى شهيد 14 شباط".
اليوم، وبعد خسارة كل هذه الانجازات، عاد اللبنانيون إلى مربعاتهم الطائفية والمذهبية والحزبية، وعادوا إلى التناحر الداخلي حول عناوين ورمزيات تجاوزها الزمن والتاريخ.
يشهد لبنان اليوم بروز "طوائف - أحزاب"، منها من شارك في الحرب الأهلية ولا يعرف حتى اللحظة كيفية الخروج منها، ومنها من لم يشارك في العنف إنما يسعى إلى "وراثة" سردية الحرب. فنشهد صراعاً حول هوية "بشير الجميل" الكتائبية أو القواتية وآخراً حول "الشرعية المسيحية" بين القوات والتيار العوني.
كما نشهد صراعاً درزياً بين مؤيّدٍ لجنبلاط وآخر للأسد وايران؛ وصراعاً سنّياً بين من يرى في الرئيس سعد الحريري الوريث الشرعي للسنّية السياسية وبين من يرى مستقبل السنّة بالتفاهم مع العلويين والشيعة؛ كما نشهد صراعاً شيعياً بين من يحاول البحث عن طريقٍ عربية للشيعة ومن يرى مستقبل الطائفة في كنف ولاية الفقيه.
إن انحدار الحياة السياسية إلى هذا المستوى من التفكك هو نتيجة انهيار الاطروحة الوطنية اللبنانية.
فعندما تسقط ضمانة الدولة تبحث الطوائف والجماعات عن ضمانة رديفة، كما فعلت في الحرب.
وعندما تسقط الاطروحة الوطنية الجامعة تتقدّم الاطروحة الطائفية، وغالباً ما تتحوّل هذه الاطروحة الطائفية إلى اطروحة حزبية ومنها إلى اطروحة شخصانية وصولاً إلى تفككٍ لا مثيل له.
إن اختزال السياسة بالسُلطة والسُلطة بالطائفة أو الحزب وهذه الطائفة أو الحزب بشخصٍ أو بشخصين يؤدّي إلى اختزال لبنان، فإذا نجحوا حقّقوا مكاسب خاصة وإذا فشلوا فشل معهم لبنان!
لن يستقيم الوضع إلا إذا عدنا إلى مشروع ينظر إلى الأمام وليس إلى الخلف.
والمشروع الوحيد هو لبنان العيش المشترك وفقاً للطائف والدستور في عالمٍ عربيٍ للعيش المشترك ومتوسّط العيش المشترك وعالم العيش المشترك.
لأن السؤال الوحيد المطروح اليوم في لبنان والمنطقة والعالم هو: كيف يمكن أن نعيش بسلام إذا كنّا مختلفين؟
الجواب في لبنان حكماً، إذا ما أحسنّا...
فارس سعيد