كادت الوكالة الوطنية للاعلام ألّا تنشر نهار السبت سوى المواقف المستنكرة لـ "الاعتداء" المزعوم على مسجد جبيل والذي بيّنت تحقيقات الجيش أنّه عمل فردي.
في بلد يعيش انهياراً مالياً وإقتصادياً غير مسبوق في تاريخه، وكلّ يوم يتّضح أكثر فأكثر حجم الكارثة الاجتماعية الحاصلة والمرشحة للتفاقم، يمكن لخبر مغلوط كذلك الذي انتشر عن اشكال جبيل ان يتّخذ واجهة الاهتمام السياسي والاعلامي. وهذا إن دلّ على شيء فعلى أنّ دور السياسيين والشخصيات العامة قبل الأزمة وبعدها هو هو: استغلال احداث مماثلة للظهور واطلاق مواقف فارغة من أي مضمون حقيقي؛ وهي أصلاً مواقف مبنية على حدث مغلوط.
هذا الأمر على هامشيته بالنظر إلى حجم مصيبة لبنان يدّل على طبيعة الحياة السياسية وعلى المسالك التي أُخذ اليها النظام السياسي، وهي مسالك لا تنتج سوى سياسيين وشخصيات عامة غير كفوئين، كما أنّها لا تنتج سوى الفساد بالمعنى الواسع للكلمة.
لذلك يحيل استغلال حادث جبيل إلى كلّ المسار السياسي بعد اتفاق الطائف بوصفه مساراً أوصل البلد، إلى التصحّر السياسي، وإلى الانهيار المالي الذي يترافق حتماً مع سقوط الدولة وفقدان لبنان وظائفه السياسية والاقتصادية في المنطقة، خصوصاً في ظلّ دخول اسرائيل شريكاً أساسياً على الخريطة الاقتصادية العربية.
لقد أسّست الإدارة السورية للبنان بعد انتهاء الحرب لأعراف وسلوكيات سياسيّة واجتماعية خلقت نظاماً سياسياً/اقتصادياً لا ضوابط دستورية وقيمية له إنّما ما يتحكّم به هو المصلحة السورية حصراً. وعلى جري سياسته في لبنان فقد اشتغل النظام السوري على التناقضات الطائفية وكثّفها من خلال تقسيم الوظائف السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية للنظام (السيستام) بحسب الطوائف، ما جعل هذه الطوائف، كبنى سياسيّة واجتماعية ورمزية، تتنافس فيما بينها لنيل حصّة أكبر من نظام المحاصصة والزبائنية الطائفية الذي رعاه السوريون قاطعين الطريق أمام أي اصلاح سياسي حقيقي بموجب دستور الطائف.
بالتالي أصبحت مشاركة الطوائف في السلطة عبر ممثليها السياسيين مشاركةً في نظام الفاسد والإفساد القائم؛ وهذا أمر كانت له تداعيات هائلة على مختلف السلوك السياسي والاجتماعي، والذي كان في الأساس يعاني اختلالات قيمية، لكنّ الحرب ثمّ الوصاية السورية فاقما هذه الاختلالات وكرّساها بوصفها أمراً واقعاً، فغدت المنظومة القيمية الجديدة - أو "أخلاق الجمهورية الثانية" بحسب تعبير جوزف سماحة - منظومة مطلوبة، وظيفتها تبرير الفساد وتغطيته من رأس الهرم هبوطاً إلى أدنى أدنى المستويات الاجتماعية. بالتالي اصبح الفساد معيار "المشاركة السياسية" بمختلف مراتبها.
بعد 2005 أصبحت مفاهيم مثل "الشراكة"، و"الميثاقية"، تستخدم كأدوات في لعبة الفساد والإفساد، لأنّ "الشراكة" استحالت مشاركة في تقاسم مغانم الدولة وتوزيعها على الأزلام والمحاسيب، و"الميثاقية" استحالت ترسيماً للحدود بين الطوائف في دوائر الفساد ضمن الدولة.
بهذا المعنى كانت التسوية الرئاسية الأخيرة بمثابة إعادة انتاج لنظام المحاصصة الطائفية بنسخته المحدثة التي رعاها السوريون قبل رحيلهم. لا بلّ إنّ المنطق السياسي للتسوية كرّس هذا النظام ودافع عنه بوصفه يكفل الاستقرار السياسي، بعدما كفل "حزب الله" الاستقرار الأمني بمحاربته الإرهاب وصولاً إلى داخل الأراضي السورية!
كلّ ذلك هبط بالحياة السياسيّة وبالشأن العام في لبنان إلى مستويات دنيا، لأن الّلعبة ما عادت تستند إلى المرجعية الدستورية وإلى منظومة قيم عقلانية وعصرية، بل أصبحت محكومة بموازين القوى التي، وكما وقت السوريين، لا تبحث إلّا عن مصالحها ولو كانت هذه المصالح على حساب المجتمع وديمومته، كمجتمع تحكمه قوانين تطوّر عقلانية وعصرية أيضاً. وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى سقوط آليات المحاسبة المجتمعية والأهم من ذلك إلى فقدان الأدوات المعرفية التي تتيح هذه المحاسبة. بالتالي لا يضطر أي سياسي أو رجل دين أو أي شخصية عامة أن يدرسوا مواقفهم قبل اطلاقها، أيّا تكن تداعيات هذه المواقف، فالمعيار الوحيد هنا المصلحة الشخصية ولا شيء سواها، حتّى انهم قد يلجأوا إلى اختراع أحداث لم تحدث!